رئيس التحرير
عصام كامل

إسرائيل تهاجم الأطفال


في 16 يوليو الجاري، وقبل أن يصل الشاب الصحفي اللامع أيمن محي الدين إلى فندقه في غزة، المطل على شاطئ المتوسط، وصلت بين قدماه كرة ركلها له أحد أطفال أربعة من أبناء صيادي القرية القريبة. اللاعبون في هذا الشاطئ أمام الفندق الذي يتخذه مجموعة من الصحفيين الأجانب سكنا لهم، ظنا أنه في مأمن ولو قليلا عن حمم القنابل التي تسقطها الطائرات الإسرائيلية على القطاع منذ عشرة أيام. 

حاورهم أيمن بالكرة وتبادل معهم وهم أطفال السابعة والتاسعة أعوام.. الابتسامات، التي لم يتخيل أن تكون الأخيرة على شفاه الأطفال وربما له أيضا. فما أن صعد شرفة غرفته ليتابع المباراة حتى شاهد مركبا حربيا إسرائيليا كان يربض داخل المياه يطلق قنابله الفتاكة على الأطفال. وهرعت الأقدام الصغيرة على الرمال الساخنة محاولة الهرب، إلا أن الغول المزود بكل أدوات الرؤية والتصويب والتكنولوجيا التي يتباهي بها عسكر إسرائيل، أبت إلا أن تتابع الأقدام الناعمة وترميهم بقذيفة أخرى أردتهم الأربعة قتلي. شاهد أيمن ما حدث لفريقه الصغير فهرول مسرعا نحوهم ظنا منه أن باستطاعته أن يجلب لهم الإسعاف الطبي وما أن وصل إلى أجسادهم البريئة حتى أيقن أن القذيفة أكبر حجما وتدميرا وغشما من أعضائهم اليانعة.

ولأيمن المصري المولد خبرة إعلامية عالية حيث بدأ في ديسك الأخبار لمحطة NBC الأمريكية أثناء ضرب برجي مانهاتن 2011. ثم قام بتغطية الحرب العراقية لمحطة CNN. وعمل أثناء الانسحاب الإسرائيلي من غزة وكان أول صحفي يدخل إلى المعمل الذري الليبي القذافي. وقام بالحج إلى الأراضي المقدسة واشترك في التغطية الإعلامية للعدوان على غزة 2009. وعاد بعدها إلى مصر ليصبح مراسلا للجزيرة الإنجليزية، حيث تعرفت على مدي ما يحمله من صفات مهنية وأخلاقية عالية.

وعند قيام الثورة المصرية قُبض عليه لأيام قبل سقوط مبارك. ثم قبض عليه مرة أخرى في أغسطس 2001 إلى أن ترك العمل بالجزيرة التي لا تحصن العاملين بها بالموضوعية الكافية لضمان أداء هم لعمله. وعاد مرة أخرى إلى NBC ليعمل في أوكرانيا ثم أخيرًا إلى غزة. فالشاب يحمل من المهنية ما يستطيع أن يصبغ أعماله بالاتزان والموضوعية. وهو ما فعله حتى أمام جثث الأطفال.إلا أنه ومع فظاعة ما رآه.و يعرف أنه لن يستطيع إبرازه في المحطة الأمريكية. فكتب في تغريده على حسابه الشخصي أن إسرائيل تستهدف الأطفال. وفورا سحبت إدارة الشركة أيمن من موقعه وتم استبداله بآخرين لم يذهبوا إلى غزة في حياتهم من قبل.

وفي نفس اليوم أبعدت محطة CNN مراسلتهم في غزة ديانا هجنىي عن العمل في غزة لنشرها على صفحتها الشخصية في تويتر، تصف فيه مجموعة من المستوطنين تعرضوا لها أثناء عملها بـ(الحثالة). يحضرني موقف آخر حدث رواه لي رئيس مكتب CNN بالقاهرة Ben Wedman منذ سنوات مضت، وهو من أكثر الصحفيين الذين تعاملت معهم على مدي 50 عاما احتراما ومهنية، وكان أول صحفي عالمي يدخل إلى غزة لتغطيه حرب 2009 عن طريق الحدود المصرية، بعد أن منعت إسرئيل دخول جميع الصحفيين. 

ووقف بن في بث مباشر ليصف بموضوعية شديدة ما يتعرض له المواطنون المدنيون الفلسطينيون من انتهاك وقتل. وشعر بن أن أمامه على الجانب الآخر من يتعمد إطلاق النار عليه. فارتمي فورا في الأرض وطلب من تليفونه المحمول مدير مكتبه في القدس وطلب منه أن يتصل بجيش الدفاع الإسرائيلي وهو الذي على اتصال مهني دائم بهم. ويوضح للجنود أين يقف بالضبط ويطلب منهم عدم إطلاق النار عليه. وبعد دقيقتين اتصل مدير المكتب بويدمان الذي كان مايزال منبطحا على الأرض. وأبلغه بأن الجنود الإسرائيليين وعدوه أنهم سوف لن يطلقوا النار باتجاهه. وما أن هم واقفا حتى صارع الجندي بإطلاق الرصاص الذي اخترق أسفل جسده وأوقعه مدرجا في دمائه.

وجاءت عربة إسعاف إسرائيلية لنقله إلا أنه رفض وفضل الانتظار لعربة أخرى فلسطينية رغم غزارة نزيفه، حيث قام بإسعافه أطباء فلسطينيين. وبعد أيام قرر بن أن يدلي بحديث إلى شبكته ليصف فيه ما حدث، إلا أنه فوجئ بتليفون من إدارة المحطة تطلب منه عدم رواية القصة. وقال له نائب رئيس الشبكة: هل تعلم كم من أموال الإعلانات سوف نخسرها إذا نشرنا حقيقة ما حدث.

خلال عملي لسنوات طويلة ورغم أني شرفت بالعمل مع أكثر الإعلاميين الأمريكيين مصداقية وقدرة على التأثير في الرأي العام، أمثال بيتر جننس ووالتر كرونكايت وبربرا والترز، إلا أننا طالما عانينا من خوف المحررين والمراسلين من إطلاق الحقيقة والخوف من غضب الأمريكيين أصدقاء إسرائيل.

حتى كتابة هذه السطور هناك 56 طفلا فلسطينيا قتلتهم القوات الإسرائيلية وتم تدمير أكثر من 800 منزل وقتل وإصابة مئات من النسوة.

على الجانب المصري شاهدت السيد توفيق عكاشة الإعلامي الجالس باستمرار في الاستوديو، يعلن على مسئوليته بأنه لو ثار أهالي غزة ضد حماس، لقدم الشعب المصري والجيش المصري العون للخلاص من حماس. وعلي الرغم من بساطة و"هلهلية" الرجل، إلا أنه لمس حقيقة عبقرية لما يستطيع الصحفيون تقديمها للرأي العام، وهو أن (غزة ليست حماس)، تماما كما نعلم جميعا أن اليمن ليست القاعدة والعراق ليست داعش وأفغانستان ليست بن لادن، وسوريا ليست الأسد وألمانيا ليست هتلر واليهود ليسوا حكومة نتنياهو. 
الجريدة الرسمية