رمضان شهر الفتوحات الربانية.. المسلمون رفضوا الإفطار خلال فتح مكة.. معظم الانتصارات على الفرس والروم وقعت في الشهر الكريم.. والمصريون أوقفوا زحف التتار أثناء الصوم
ارتبط شهر رمضان عند المسلمين بأعمال الفضيلة والخير والتقرب إلى الله بالعبادة، فالأجر مضاعف والثواب مضمون، كما تعلق أيضًا في أذهانهم بانتصاراتهم ومعاركهم في هذا الشهر الكريم، حيث سطر المسلمون في رمضان أروع حروف البطولة وأسمى آيات التضحية في سبيل الله والوطن، فجادوا بأرواحهم ونفوسهم في أفضل الأيام عند الله، فكانت فتوحات المسلمين وحروبهم المصيرية مرتبطة بشهر رمضان.
في هذا الشأن، قال الدكتور هاشم عيسى، أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، إن مصطلح الفتوحات لا يمكن أن نطلقه في الفترة المبكرة من عهد الرسول؛ لأن الحقبة الأولى كانت تهدف لتمكين الدولة الإسلامية، ومن مظاهرها أن يكون لها جيش يؤكد للآخرين هيمنة الدولة وقوتها.
وتابع عيسى: "لما تأخر التشريع والإذن بالقتال، فإنه جاز القول إن المسلمين كانوا في أمس الحاجة لمشروعية القتال للذود والدفاع عن عقيدتهم، بعد أن أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بغير حق وسلبوا ثرواتهم، وكان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يستمهلهم حتى نزل قول الله تعالى في سورة الحج: «أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير».
والمتأمل في هذه الآية سيجد حكمة الله في تدرج تشريع القتال، إذ استهله بالإذن الذي يوحي بأنه جاء موافقًا لرغبة جامحة في نفوس المجتمع الإسلامي المتعطش لقتال صناديد قريش الذين أساءوا للإسلام ورسوله وآذوه إيذاءً شديدًا، وهذا يعني أن العقيدة العسكرية عند المسلمين في أول الأمر كانت عقيدة دفاعية لا هجومية؛ لأن الإسلام دين لا يدعو إلى العنف، ولم تكن الحروب مقصودة في ذاتها، لأن الإسلام من أهم أركانه ومبادئه "المحافظة على الإنسان" وقد عظم من شأن هذا الكائن، غير أن القتال صار مع الوجود البشري منذ بداية الخليقة أمرًا حتميًا، أشار إليه الإسلام وعبر عنه القرآن في أول جريمة قتل بين هابيل وقابيل، وتجلى ذلك في قوله تعالى في سورة المائدة: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا".
ولكن قد تستدعي ضرورات الحياة نشوب معارك للدفاع عن المحارم الـــ5، وهي "العقيدة والنفس والمال والعرض والعقل".
وأضاف دكتور التاريخ الإسلامي شارحًا بداية خوض المسلمين معاركهم في شهر رمضان: "لما كان الصراع في باكورة الدعوة الإسلامية بين المسلمين والمشركين يقتضي دفاعًا عن هذه الحرمات، فقد استوجب ذلك أن يخوض المسلمون معاركهم حتى وإن كانت في شهر رمضان، بل لقد كان الشهر الكريم من الأوقات المفضلة عند المسلمين للجهاد، لأن هممهم تكون عالية باستعلائهم عن نزواتهم وشهواتهم ورغباتهم البشرية من خلال الصوم الذي يمتنعون فيه عن الطعام والشراب فتسمو أرواحهم بقربهم من الله وبنصرهم له بإقامة شعائره وإعلاء كلمة دينه، وحق على من ينصر الله أن ينصره كما وعد في كتابه الحكيم "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
وقد قال أحد المفسرين في سياق حديثه عن فريضة الصوم وربطها بالجهاد، إنه حق على أمة فرض الله عليها الجهاد، أن يفرض عليها الصيام ليكون تهيئة للمجاهدين من الناحية النفسية والبدنية، فضلا عن السمو الروحي، فينطلقون لا سبيل لهم إلا أن يظفروا بإحدى الحسنيين، "النصر" أو "الشهادة".
وبرر "عيسى" مشروعية الفطر في بعض الحالات أثناء القتال، حيث إن فريضة الصوم فرضت على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة من المدينة المنورة، وبالرغم من فرضية الصوم، فإن الإسلام دين يتماشى مع الفطرة الإنسانية السليمة التي قد يصعب عليها الصوم عند السفر أو عند لقاء العدو أو عند القيام بالأعمال الشاقة التي لا يتمكن الإنسان معها من أداء الصوم أداءً تامًا، ولذلك أوجب المولى عز وجل الفطر عند السفر وعند لقاء العدو.
وأثناء فتح مكة في 20 رمضان من العام الثامن من الهجرة، طلب الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من المسلمين أن يفطروا، ولما وجد فيهم عدم الرغبة في الإفطار حرصًا على أداء فريضة الصوم، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بالإفطار وشرب الماء أمامهم حتى يتأسوا به ويقتدوا بصنيعه، وليتحملوا مغبات السفر الطويل من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة للقاء مشركي مكة، فمن فضل الله على الأمة الإسلامية أن يسر أمورها وجعل الفطر واجبًا في بعض الأمور والحالات ومنها لقاء العدو.
وخاض المسلمون معارك كثيرة وتاريخية في شهر رمضان، حيث روى الدكتور يسري أحمد عبد الله زيدان، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ووكيل كلية دار العلوم للدراسات العليا بجامعة القاهرة، أن النصر كان حليفهم في أغلبها لأن شهر رمضان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شهر بركة"، ومن بين الانتصارات الرمضانية وما أكثرها، الانتصار في "غزوة بدر" وفي فتح مكة، وبعد ذلك فتح الأندلس (البرتغال وإسبانيا حاليا)، ومعظم انتصارات المسلمين على الروم والفرس في عهد الخلافة الراشدة كانت في رمضان.
كما أن الانتصارات الإسلامية الحاسمة على التتار والصليبيين -والكلام وفقًا لزيدان- كانت في رمضان، ومنها موقعة "عين جالوت" سنة 658 ه وفتح الظاهر بيبرس لحصن "صفد" المنبع ببلاد الشام وحصن عكار وغيرها من الحصون.
وبالرجوع إلى كتاب "نهاية الأرب" للنويري، نستطيع أن نقف على حقيقة ثابتة مؤكدة، وهى أن كثيرًا من انتصارات المسلمين على الصليبيين والتتار كانت في شهر رمضان، وكأن المسلمين كانوا يتحرون هذا الشهر الكريم ليخوضوا معاركهم فيه، ومنها أيضًا انتصار العاشر من رمضان 1393 ه الموافق السادس من أكتوبر 1973 م، وكان انتصارا حاسمًا شبيهًا بالانتصارات السابقة للمسلمين في رمضان.
وفيما يتصل بفتوحات المسلمين في الأندلس، فإن الفتح مر بعدة مراحل أولها كان في رمضان من سنة 90 ه وكانت مرحلة استكشافية لبلاد الأندلس، حيث قاد طريف بن مالك مجموعة من المسلمين لاستطلاع الحالة الدفاعية لهم، وسمي المكان الذي ذهب إليه الفاتح العربي بـ"جزيرة طريف"، ومن ثم بدأ الفتح سنة 91 ه في رمضان، وفي السنة التالية، عبرت جيوش كثيفة جبل طارق الذي سمى باسم الفاتح العربي المسلم طارق بن زياد، وظل معروفًا بهذا الاسم في كل لغات العالم حتى يومنا هذا، وكان يسمى قبل الفتح "مضيق كالبي".
ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الأندلس تدخل تحت السيطرة الإسلامية وأتم موسى بن نصير ما بدأه طارق بن زياد، حيث استطاع المسلمون في فتوحاتهم بالأندلس أن يصلوا إلى مدى 30 كم من باريس بفرنسا، ثم تمكنوا من السيطرة على سويسرا ومالطا وصقلية وجنوب إيطاليا، حيث وصل الإسلام في بدايات القرن الثالث الهجري إلى هذه المناطق حتى نهاية القرن الخامس عندما خرج المسلمون من صقلية سنة 484 ه.
ويرى الدكتور يسري زيدان أنه بانتهاء عهد الفتوحات الإسلامية في بلاد أوربا في زمننا اليوم، أن المدخل إليهم الآن يتمثل في الدعوة الإسلامية ونشر تعاليم ديننا الحنيف وحسن الخلق وجميل المعاملة والتمسك بمبادئ الإسلام من العدل والمساواة والخلق القويم، مما يشجع غير المسلمين على التعرف على دين الإسلام والدخول فيه أو على أقل تقدير إنصاف المسلمين في قضاياهم العادلة وأبرزها قضية فلسطين.
ويكمل وكيل كلية دار العلوم سرد أشهر انتصارات المسلمين لـ"فيتو": أما عن المعارك التي انتصر المسلمون فيها في شهر رمضان، فحدث ولا حرج، يأتي في مقدمتها معركة عين جالوت تلك المعركة التي يعدها الغرب قبل المسلمين من المعارك الفاصلة في التاريخ الإنساني ككل وليس الإسلامي فحسب؛ لأن هذه الموقعة والتي انهزم فيها التتار هزيمة منكرة أدت إلى تقوقعهم في المناطق التي استولوا عليها في الشام والعراق، بعد أن كانوا قد سيطروا على مناطق كبيرة في أوربا الشرقية وحكموا موسكو عاصمة روسيا الآن، وكان التتار ينوون غزو أوربا الغربية والتي لم تكن في ذلك الوقت على قدر من الكفاءة والقدرة على صد هجوم التتار، حيث إنهم كانوا سيتوجهون بعد الاستيلاء على مصر إلى أوربا الغربية، ولكن موقعة عين جالوت في 20 رمضان سنة 658 ه حالت دون إنجاح مخططاتهم والوصول إلى أوربا.
وبعد انكسار شوكة التتار، دعا المسلمون أعداءهم للتعرف على دين الإسلام ولم تمر 20 سنة إلا وقد أسلم عدد من ملوك التتار، بعد أن لمسوا روعة وعظمة الدين الإسلامي بمبادئه السمحة، وكان من أوائل التتار المسلمين تتار جنوب بحر قزوين وروسيا المعروفون بالقفجاق وزعيمهم بركة خان، ثم أسلم تتار العراق وسلطانهم الذي أطلق على نفسه أحمد بعد إسلامه، أي أن أحفاد هولاكو دخلوا الإسلام عن اقتناع وطواعية.
ولا تزال حتى الآن توجد دولة في الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى هي دولة (تتار ستان) وهم من نسل التتار الذين خرجوا على العالم الإسلامي بداية من عام 616 ه فكانت موقعة "عين جالوت" فاتحة خير للإسلام والمسلمين، حيث كان للمماليك الذين حكموا مصر والشام والحجاز الفضل في انحسار المد التترى إبان قوته واعتداءاته.
نقلا عن العدد الورقى