ننشر نص كلمة شيخ الأزهر في حفل تسلمه "جائزة دبي" للقرآن الكريم
تنشر "فيتو" نص كلمة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، التي ألقاها في ساعة متأخرة من، مساء أمس الجمعة، في حفل تسلمه جائزة دبي للقرآن الكريم بالإمارات العربية المتحدة، بعد حصوله على لقب شخصية العام الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الحفلُ الكريمُ!
السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
وأُحيِّيكُم أجملَ تحيَّةٍ، شاكرًا للقائمِين على أمرِ جائزةِ القُرآن الكريمِ، اختيارَهم العبدَ الضعيفَ لنَيْلِ هذه الجائزةِ العالميَّةِ الكُبرى، وإنَّه في الحقِّ لَتكرِيمٌ للأزهرِ الشريفِ، كَعبةِ المسلمين العِلميَّةِ، ومَرجِعِهم الأكبرِ على مدى أكثَرَ من ألفِ عامٍ في نشرِ الإسلامِ وتعلُّمِ لُغتِه وفهمِ شريعتِه الغَرَّاء... وإنِّي لأرجو أنْ أكونَ عندَ حُسن الظنِّ، وأن يكونَ الأزهرُ عَوْنًا لكم على أداء رسالتِكم السَّامِيَة في خِدمةِ القُرآن الكريم...
والقرآنُ الكريمُ –أيُّها السادةُ- هو -كما نعلَمُ جميعًا- كلامُ اللهِ تعالى المُنزَّلُ على محمدٍ ﷺ، المُتعبَّدُ بتلاوتِه... فهو ليسَ من كلامِ الإنسِ أو الجنِّ أو الملائكةِ، بل ليس من كلامِه ﷺ، ولا تَنالُه قُدرته البلاغيَّة على سُموقِها ورِفعتِها.
لكنَّ كثيرًا من غيرِ المُسلِمين يُشوِّشون على هذه الحقيقةِ بإنكارِهم أنْ يكونَ القُرآنُ الذي جاء به محمدٌ ﷺ وَحيًا من الله تعالى، والعجيبُ أنَّهم رغمَ اعترافِهم بأنَّ التوراةَ والإنجيلَ كليهما وحيُ اللهِ إلى موسى وعيسى -عليهما السلام- إلَّا أنَّهم يستَكثِرون على محمدٍ ﷺ أنْ يكونَ نبيًّا يُوحَى إليه، وأنْ يكونَ القُرآنُ كلامَ اللهِ تعالى سَمِعَه محمدٌ ﷺ بأُذنَيْه، وتلَقَّاه عن الوحي لفظًا ومعنًى، ثم بَلَّغَه للناسِ كما تلَقَّاه ووَعاه، ويُقرِّرون أنَّ هذا القُرآنَ من تأليفِ محمدٍ ومن كلامِه ﷺ، وأنَّه كان رجلًا ذكيًّا أو عبقريًّا جاء بنصٍّ أدبيٍّ راقٍ تَأثَّر به الناسُ.
ومن إعجازِ القُرآنِ الكريمِ أنَّه لفَتَ أنظارَنا إلى هذا الإفكِ من القولِ والاعتقادِ، وحَسَمَ أمرَه في كثيرٍ من الآياتِ التي تُبيِّنُ أنَّ محمدًا ﷺ، ليس له دخلٌ في لفظةٍ واحدةٍ من ألفاظِ القُرآنِ: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ» {الحاقة: 44، 46}.
«وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» {يونس:37}.
على أنَّ النظرَ العقليَّ في تاريخِ محمدٍ ﷺ، وحياتِه قبلَ البعثةِ وبعدَها، يَرفُضُ -رفضًا قاطعًا- التشكيكَ في نسبةِ القُرآنِ إلى اللهِ تعالى... ذلك أنَّه لو تَخيَّلنا أنَّ محمدًا ﷺ، لم يكن نبيًّا يُوحَى إليه - كما يقولُ المُلحِدون - وأنَّه كان زعيمًا أو مُصلِحًا اجتماعيًّا أو حتى فيلسوفًا، أليس من مصلحتِه –حالتَئذٍ، فيما يقول عُلَماؤنا- أن يَنسِب القُرآنَ بفصاحتِه وبلاغتِه ولُغته العاليةِ إلى نفسِه؛ ليَزدادَ بهذه النِّسبةِ قوةً وعظمةً وسيطرةً في قومِه، وليَتِيه على خُصومِه بأنَّه صاحِبُ هذا النصِّ المُدهِش الذي تحَدَّى به فُصَحاءَ العرَبِ وعَيَّرَهم بقُصورِهم وعَجزِهم عن الإتيانِ بمِثلِه؟! نحن نعلَمُ أنَّ من الأُدَباءِ والمُفكِّرين والكُتَّابِ مَن يَعتَدِي على آثارِ الغير ويَسرِقُونها ويَنسِبُونها إلى أنفُسِهم فيما يُسمَّى بـ"السَّرِقاتِ الأدبيَّةِ"، ولكنَّنا لا نَعلَمُ أبدًا أنَّ أحدًا من الشُّعَراءِ أو الكُتَّاب تبَرَّأ من قصيدةٍ رائعةٍ قالَها أو نصٍّ بديع كتَبَه ثُمَّ تَبَرَّأ منه ونسَبَه إلى غيرِه، فهل لو كان محمدٌ ﷺ، هو الذي أَلَّفَ القُرآنَ الذي تحدَّى به أكابرَ الشُّعَراءِ والبُلَغاءِ والخُطَباءِ، أكان يُعقَل أن يَنسِبَه إلى غيرِه؟ وهو الذي كان في أَمَسِّ الحاجةِ -يومئذٍ- إلى عملٍ كهذا يَدفَعُ به تَحدِّياتِ الخُصوم والأعداءِ!!
ومن إعجاز القُرآن -أيضًا- أنَّه تصدَّى لفريةٍ أخرى زعَم فيها المستشرقون أنَّ محمدًا -ﷺ- اقتَبسَ القُرآنَ من التوراةِ والإنجيلِ ومن عُلَماءِ أهلِ الكتابِ من اليهودِ والنَّصارى المُتفرِّقين في شبهِ جزيرةِ العَرَبِ في خَيبَر ويثربَ ونَجران... لافتًا الأذهانَ إلى أنَّ لغةَ التوراةِ والإنجيلِ – في ذلكم الوقتِ – لغةٌ أعجميَّةٌ، بينما لغةُ القُرآنِ في أعلى درجات لُغةِ العربِ من حيثُ الفصاحةُ والبلاغةُ، فكيف يزعم أنَّ القُرآنَ العربيَّ كان مَزِيجًا وأخلاطًا من نُصوصٍ أعجميَّةٍ؟! ولو أنَّ محمدًا كان يَعلمُ العِبريَّةَ أو اليُونانيَّةَ أو الآراميَّة لكان لمِثلِ هذا الزَّعمِ شيءٌ من الوَجاهةِ، ولكنَّه ﷺ أميٌّ لا يَعرفُ القِراءةَ ولا الكِتابةَ في لُغتِه الأمِّ، فكيف بالقِراءةِ والكتابةِ في لُغاتٍ أخرى لم يَعرِفها هو ولا قومُه في مَكَّةَ وما حولَها.
وأذكُر أنَّني قد تَباحَثتُ مع عددٍ من المُستشرِقين الفرنسيِّين حولَ هذا الموضوعِ، وسألتُهم: متى ظهرت أوَّلُ ترجمةٍ للعربيةِ للتوراةِ والإنجيلِ؛ لأعرِفَ هل كانت هناك ترجمةٌ عربيَّةٌ لهذَيْن الكتابَيْن أيامَ النبيِّ محمدٍ ﷺ وفي حياتِه، فأجابوني – بعدَ بحثٍ علميٍّ دقيقٍ - أنَّ أوَّلَ ترجمةٍ عرَبيَّةٍ للتَّوراةِ والإنجيلِ ظهرت بعدَ وفاةِ محمدٍ ﷺ بمائةِ عامٍ على الأقلِّ... وهكذا تَأكَّدَ لي سُقوطُ هذه الأسطورةِ التي لا تزالُ تَترَدَّدُ في دَوائِرِ بعضِ المُستشرِقين –حتى يومِنا هذا– وأنَّ القرآنَ الكريمَ سبق إلى تقرير هذه الحقيقة العلميَّة بأكثرَ من ألفِ سنةٍ على الأقلِّ؛ وذلك في قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» {النحل: 103}.. ثم تَذكَّرتُ قولَ الله تعالى لنبيِّه -ﷺ-: «قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» {يونس:16}، «وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ» {29/48}.
أيها السادة:
إنَّني إذ أعتذِرُ لكم عن هذه الإطالةِ فإنَّ لي أملًا في أنْ تتَبنَّى جائزةُ دبي العالميَّةُ للقُرآنِ الكريمِ مشروعًا للدِّفاع عن القُرآن؛ يَرصُدُ كلِّ ما يُكتَب عنه من تشكيكٍ في اللغاتِ العالميَّة؛ لتَفنيدِها وبيانِ وجهِ الحقِّ للجميعِ في الشرقِ والغرب، والأزهرُ الشريف بكلِّ هيئاتِه العلميَّةِ يَضَعُ كُلَّ إمكاناتِه لخِدمة مشروعٍ كهذا.
وأخيرًا:
أُقدِّم شُكري الجزيلَ لراعي الجائزةِ صاحبِ السموِّ الشيخِ محمد بن راشد آل مكتوم، سائلًا اللهَ -سبحانه وتعالى- أنْ يَجزِيَه عن القُرآنِ الكريم وعن الإسلامِ خيرَ الجزاءِ، وأنْ يحفَظَ اللهُ دولةَ الإمارات قيادةً وشعبًا، وأن يَتغمَّدَ رائدَها العظيمَ وقائدَها الحكيم الشيخ زايد آل نهيان بواسعِ رحمتِه وكرَمِه وفضلِه.