رئيس التحرير
عصام كامل

غزة .. يا قاتلتي


كنا مشغولين بما أعدته ربة المنزل من صنوف طعام .. تساءل ابني عن الأرز البسمتي المسوى علي بخار هادئ .. هكذا يحبه ولم تغفل الزوجة ما طلبته طفلتى من شربة العصفور الحمراء، واعترف أن السفرة حفلت بما يصنع من جدار المعدة ثورة عارمة .. هذا اللحم المشوى بقليل من زبدة بيضاء أعشقه .. وهذا الصنف من الدجاج الهندي أحب المرور عليه وسط الطعام ورائحة السلطة بالإضافات الفرنسية هى نفسها التي تنافس السلطة البلدية الخضراء.
اطمأنت الأم إلي الشكل المناسب للسفرة .. هنا العصائر وقمر الدين .. هنا عصير الدوم وهنا التمر هندى والعرقسوس .. علي حروف المائدة أشكال دائرية من فاكهة الموسم .. قطع من بطيخ الساحل الشمالي المدهش وبعض أجزاء من الكنتالوب الأخضر تزين الطبق .. حبات مانجو الفص لا تزال تداعب خيالي .. فى منتصف المائدة يسكن "دكر البط" بعد أن اكتسى لونا برونزيا بعد قدحه بهدوء بزبدة جاموسية بيضاء .. بعض تفاصيل أخرى مثل الجرجير والسمبوسك وخضار السوتيه.
ها نحن قد اجتمعنا ووجوهنا تتابع عن كثب تفاصيل هذا المشهد العائلي المدهش .. رمضان يجمعنا ومائدة الطعام تصنع منا فريق عمل متعاونا في التجهير والإعداد والتحضير .. الشاشة المعروضة أمامنا تمرر صورا لأشجار خضراء وجداول ماء وصوت عبد الحليم في دعائه الخالد "أنا من تراب" .. يجسد المعني بحنجرة ذهبية لم تتكرر حتي الآن .. ينتهي الدعاء .. صوت النشيد يتسلل ببطء .. الصور أكثر بطأً .

عيوننا تراقب المشهد الغذائى البديع وعقارب الساعة تتوقف .. يقلب ابنى بين الشاشات .. فجأة يتوقف الريموت عند صورة أكثر دهشة .. طائرات تصب النار .. بيوت تتساقط كالثرى .. شوارع تحترق .. لهيب النار يتعالى .. سيارات الإسعاف تقصف .. تقترب الكاميرات أكثر .. أشلاء الأطفال تتطاير . اللحم البشرى يختلط بالأسمنت تكاد تشم رائحة البشر المشوى بحمم النار.

بيوت بكاملها انهارت .. استشهد كل من فيها أطفالهم .. شبابهم .. شيوخهم .. يقول المذيع بصوت جهورى غير مؤثر: ١٦٦ شهيدا وآلاف الجرحى .. صرخات الأمهات تدوي .. تزلزل هدوء نفسى .. تقتلنى غزة .. تمزقني غزة ..تحيطنى بهالات الخزى وتغلفني بأثواب العار .. يموتون هناك تحت الرصاص وبالرصاص ونموت هنا إفراطا فى الطعام .. إفراطا فى الشراب .. إفراطا فى الانسحاب .. إفراطا في كل ما هو عار!!
الجريدة الرسمية