أستاذي الذي علمني سحر الكلمة.. وداعا
بعد خمسة أيام من العمل المتواصل بالمدينة الألمانية بون، عدت إلى أرض الوطن منهكا.. ألقيت بجسدى المتعب، ولم أدر إلا عندما أطل صباح غير الذي كان.. فتحت هاتفى المحمول.. رسالة قصيرة تحمل على متنها صاعقة اهتز لها وجدانى الذي تربى على اسم ورد في الرسالة.. توفى فجر اليوم صلاح قبضايا.. دارت بى الدنيا دورتها الملعونة، وتساءلت أيموت الذي علمنا الحياة؟! أيموت من صنع فينا كيف نتحدى الصعاب؟! أيموت من كانت صناعة الأمل هوايته؟! أيموت من أعادنى إلى الحياة يوم قررت أن أوصد خلفى بابها؟! أيموت من قال لى يوما إن التفاؤل فريضة.. مات صلاح قبضايا أبو المعارضة في مصر، وكان خبر وفاته سطرا على بارات الفضائيات المثقلة بأعباء متابعة التافه من الأمور.
قبل يوم واحد من سفرى عدته في مستشفى مصر للطيران، حيث كان يرقد لأربعة أشهر، لم ييأس ولم يحبط.. لم يهن ولم يضعف.. كان في آخر مرة غير كل مرة.. كان كمن يبدو أنه يرسم ملامح النهاية المحتومة.. قال لى بصوت خفيض: "كل شيء وله نهاية".. قلت "وللألم نهاية".. ابتسم وهو يقول "عشت ثمانية وسبعين عاما".. قلت له: وسوف تبقى كما أنت محاربا قويا ومقاتلا شرسا.. هل نسيت أنك كنت أول صحفى معارض في مصر؟! هل نسيت أنك خضت معركة اليمن، و٦٧، و٧٣، وكنت صاحب أول كتاب عن معركة النصر؟! هل نسيت أنك قاومت كل قوى الشر يوم أرادوا لك الاختباء.. يوم قرر السادات فصلك من عملك؟! هل نسيت يوم أن كتبوا عنك تقريرا يصفك بأنك عضو جماعة الإخوان وأنت من حارب كل أطياف الزيف في حياته؟!.
لم يكن من أكلمه هو صلاح قبضايا.. كانت بقايا منه.. يغيب عنى ثم يعود، وقلبى بين جوانحى ينفطر.. يقول: أريد حقنة تعيدنى إلى غيبوبة لا رجعة منها أبدا، وأنا أقول نريدك بيننا حائط الصد الذي نلجأ إليه كلما حالت بيننا وبين أحلامنا حوائل القدر الصعب.. يطل بعينيه الزكيتين، وكأنما استعاد زمام المبادرة، ثم سرعان ما يغيب رغما عنى، وأنا أطارده أن يبقى.
أربعة أشهر قضاها أقدم محرر عسكري في الصحافة المصرية، وصاحب أول كتاب عن حرب أكتوبر، وأحد مصابى حرب اليمن دون أن يزوره حتى ولو عسكري مجند..!
أربعة أشهر قضاها على أسرة بين العناية المركزة، وغرفة العمليات، وغرفة العلاج، دون أن يسأل عنه مسئول مصرى واحد وهو من هو.. هو صلاح قبضايا الذي علم أجيالا من الصحفيين والإعلاميين، وكان مثالا يحتذى في الالتزام.. كان يردد دوما "الكلمة أشد خطرا من الرصاصة" وكان يردد دوما "الصحفى دون التزام يتحول إلى مواطن فاقد التربية" وكان يقول "السلطة مثل الثور إن أردت اللعب معها لابد أن تصطحب علما أحمر، أما إذا وضعت رأسك في رأسها فانظر ماذا يفعل الثور بضحيته".
كان مقاتلا يردد "أنا من الحمائم" وكنا الأكثر علما أنه من الصقور.. عاش صلاح قبضايا كما أراد ورفض أن يعيش كما أرادوا له.. قال له الراحل العظيم موسى صبرى: ماذا تفعل لو أن صاحب صحيفة لا يريدك في صحيفته؟ أجاب صلاح: بالطبع يجب أن انسحب.. رد موسى: السادات لا يريدك في أخبار اليوم، وأنا لا أستطيع أن أفصلك وإنما أستطيع أن امنحك زيادة في راتبك مقابل عدم مجيئك.. انسحب صلاح قبضايا، وظل يعشق السادات، وظل يتحدث عن أفضال موسى صبرى عليه وعلى الصحافة المصرية.
اعترف أننى سببت له العديد من المشاكل بسبب ما كنت أكتب، واعترف أنه كان دوما يقول لى: عندما أذكر لك رأى المسئولين فيك إياك أن تخاف فالخوف عدو الصحفى.. الخوف قاتل للإبداع..
خمسة عشر عاما عشتها تلميذا معه، حتى جاء اليوم الذي قال لى فيه: اعترف لك أنك كان يجب أن تكون رئيس تحرير الأحرار منذ سنوات، وها أنا ذا أعيد إليك حقك.. اجلس على هذا الكرسى.. تمسكت ببقائه، فأصر على بقائى، وظل قريبا منى ينصحني، كلما شعر بخطر يجاور تجربتى، حتى استقلت.. نصحنى بالبقاء في الأحرار فقلت له: ألست من علمنا دقة توقيت القرار؟
بارك خطوتى نحو "فيتو"، وعندما فاتحته بالكتابة فيها قال: أسعد كثيرا عندما أكتب مع تلامذتى وأسعد أكثر لو عملت تحت رئاستهم. كان عظيما في حياته، وفى حروبه، وفى معاركه، حريصا على قيمه ومبادئه.. وكان عظيما في رحيله.. رفض من حدثوه عن إمكانية العلاج على نفقة الدولة.. ورحل أبيا في فجر جمعة رمضانية مباركة، وطالب ابنته هبة بأن يعود إلى مسقط رأسه.. دفن جثمانه في بورسعيد، وظلت روحه معنا ترفرف حولنا أينما كنا.. وداعا قريب أستاذى الذي علمنى سحر الكلمة.