رئيس التحرير
عصام كامل

ثقافة التبرع.. وبناء الدولة


اتصل بي مراسل صحيفة مصرية بعد ساعات من خطاب الفريق السيسي والذي أعلن فيه أنه سيتنازل عن نصف راتبه - والذي سيخضع لقانون الحد الأقصى - لصالح مصر، وطلب مني التعليق على هذا الأمر. ووفق لما رأيته وقلته، وما نشرته الصحيفة، أن هذا الموقف يضيف جدًا لشخص السيسي "الإنسان"، وهو بالحقيقة يضيف نبلا إلى نبله، وخاصة أنه لم يكتف براتبه فقط ولكن أضاف أنه سيتبرع بنصف ما يملك بما فيه ميراثه عن أبيه لصالح الوطن. هذا على الصعيد الإنساني، ولكن وإن كان هذا القرار يصب لصالح السيسي "الإنسان"، لكنه لا يمثل إضافة لصالح السيسي "الرئيس".

فإدارة الدول شأن آخر، فلم ينتعش اقتصاد دولة مثل الأرجواي حينما تنازل "خوسيه موخيكا" عن تسعين بالمائة من راتبه وحينما فتح قصر "كأسا سواريث" الرئاسي في فصل الشتاء لإيواء المشردين، ولكن نهضت أورجواي حينما وضع "خوسيه" تناغما بين الوضع الاجتماعي لبلاده وبين أساسيات السوق الحر، وحينما اعتمد على الطاقة الخضراء من طاقة شمسية وتوربينات الهواء والتي جعلت أورجواي على رأس الدول المنتجة للكهرباء، وبسببها هبطت معدلات البطالة والفقر في الدولة.


أخلاقيات ووطنية "دي سيلفا"، الرئيس البرازيلي لم تكن بمفردها القادرة على النهوض باقتصاد البرازيل وتحقيق العدالة الاجتماعية بها، بل بالاعتماد على مستشارين أكفاء في المجال الاقتصادي، كذلك باحتواء رجال الأعمال بالتوازي مع الاهتمام ببرامج مكافحة الفقر مثل برنامج "بولسا فاملي"، والاعتماد على الشركات العملاقة في صناعة السيارات والطائرات ومصانع المنتجات الغذائية والتي وفرت للبرازيل ما يقرب من 60 مليار دولار، وأخرجت معها أكثر من 20 مليون برازيلي من تحت خط الفقر. وتحولت البرازيل في عشر سنوات مدة حكم "دي سيلفا" لتصبح إحدي الدول المقرضة للبنك الدولي بعد أن كانت مدينة له.

بينما كانت دولة مثل اليابان تحتاج ثقافة وأخلاق من نوع آخر لتنتقل من حالة انهيار تام بعد الحرب العالمية الثانية وفي أقل من عقدين من الزمان لتصبح من رواد العالم. اليابان والتي وصفها السفير الأمريكي "إدوين أشاور" في كتابه "اليابانيون"، تلك الدولة التي نهضت بأمرين، أولهما إرادة الانتقام من التاريخ بعد عار الهزيمة على يد قوات التحالف من خلال ثقافة التحدي، فحينما انهزمت ردت بالانتقام "السلمي" وذلك بدراسة المنتصر والاستفادة من أسباب انتصاره عليهم، ولم يكن غريبًا أن يقول إمبراطور اليابان "أن سر قوة اليابان وتقدمها هو أنها بدأت من حيث انتهى الآخرون". والسبب الثاني لنهضة هذا الشعب هو الاعتماد على نظرية "بناء الإنسان"، من خلال نظام تعليمي وثقافي حديث لا يعرف إلا أخلاقيات وقيم العمل الجماعي. 

لا مانع من إعطاء السيسي المثل للآخرين بالتنازل عن جزء من مرتبه وممتلكاته لصالح الوطن. ولا مانع من إنشاء صندوق تبرعات يشرف عليه شخصيات محترمة في الشارع المصري مثل البابا تواضروس وشيخ الأزهر، لكن علينا أن نعلم أنها ليست حلولا بل الحل الوحيد هو إدارة الدولة على عدة أسس أهمها بناء المؤسسات، وهيبة القانون، وإعلاء العلم والتعليم، وتطبيق النظم الحديثة، والسير في ركب ممن نجحوا من قبلنا.
الجريدة الرسمية