(جمال) قَتَل (ناصر)!
قرأت كثيرًا عن الزعيم (جمال عبد الناصر)، عشرات الكُتُب والمقالات التي تُمجِّد فيه وتحوِّله إلى ثلاثة أرباع إله، لا نصف فقط كما يُحب للكثيرين أن يصفوا ويبالغوا، وقرأت أيضًا كميات مُماثلة من آلاف الصفحات والسطور التي حوَّلت الرجُل إلى شيطان ونصف، على طريقة (نانسى عجرم) الشهيرة!
قالوا عن (ناصر) إنه كان نصيرًا للغلابة، وصاحب نهضة مصر الحقيقية فَشَر (محمد على) الله يرحمهما الاثنين معًا، وأنه مَن صنع العزَّة والكرامة لبلدنا، وكان ناقص يقولوا إنه صاحب الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر، بس واضح إنهم شافوا الحكاية دى واسعة شويتين، وقالوا أيضًا عن (جمال) إنه كان باطشًا فاسدًا قمعيًا متآمرًا، عدوًا للإسلام كافرًا بالديمقراطية، ولو كانت ثورة يوليو قامت بدرى شوية احتمال كانوا قالوا كمان إن هو صاحب قرار إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكى!
فكرتى الشخصية عن الرجُل لو كانت تهم حضرتك هي أن (جمال عبد الناصر) زعيم مصرى وطنى مُخلِص، له ما له وعليه ما عليه، كان زعيمًا حقيقيًا، يمتلك من الإنجازات الكثير، ومن الخطايا الكثير أيضًا، لكن إيجابياته ـ في نظرى وأنا لابس نضارة من فترة على فكرة فلو مش متفق معايا أرجوك بلاش شتيمة واعتبره ضعف نظر وخلاص ـ أكثر من سلبياته بكثير، لذا فإن الإساءة إليه ـ في نظرى تانى وأهو نُص العمى ولا العمى كُلَّه ربنا يديم علينا النعمة ـ مرفوضة بالنسبة لى، لا عن طريق الحجر على آراء الآخرين أو اعتقالهم وتعذيبهم ـ معنديش سُلطات زى ما إنت شايف غير قلم مسكين ـ لكن عن طريق صَمّ أذنى عن قلة الأدب أو التجريح في مَن منح حياته للوطن بحق، وتوفى وهو يبذل كُل جهده في سبيل قضية أمّته، لو عاجب حضرتك الكلام ده أهلًا وسهلًا، مش عاجب سيادتك برضو أرجوك خلينا مُتحضّرين، والحمد لله إن الخلاف بيننا يا عم لا جه في فلوس ولا في حريم، يعنى العملية بسيطة!
وبما إن الواحد يرغب في نهل المزيد عن حياة وتاريخ الزعيم الراحل، والتعرٌّف أكثر على الحقبة المهمة جدًا التي قاد خلالها الأمة، فقد كنت سعيدًا للغاية عندما نما إلى علمى موضوع مسلسل (صديق العُمر)، خاصةً وأن القائم بدور (عبد الحكيم عامر) هو (باسم سمرة) فنان موهوب يمتلك أدواته جيدًا، وقادر على إقناعك باحترافية بالغة بأهمية الدور الذي يلعبه في السياق الدرامى، فما بالك لو كان هذا الدور أصلًا لشخصية هامة للغاية مثل (عامر)، وهى من أهم الشخصيات التي واكبت ثورة يوليو وما بعدها لخمس عشرة سنة، ولكنى صُدمت بعنف عندما علمت بأن شريكه في المسلسل هو السورى (جمال سليمان)؛ فالرجل غير قادر على التحدُّث بلكنتنا المصرية، ويُدارى ذلك خلف أدوار الصعيدى التي لعبها تقريبًا ألف وخمسمائة مرَّة من يوم ما عرفناه على شاشتنا الصغيرة في مسلسلات رمضان، وقولت يا واد اصبر يمكن خَد دروس في اللغة، وبقى يتكلِّم زيّنا، أو يمكن عرف يطلع من جلابية الدور الواحد اليتيم ده!
وبدأت بروموهات المسلسل قبل الشهر الكريم، صوت وصورة وحياتك، ووقعت في حيص بيص، هو ده المسلسل اللى كنت ناوى أشوفه في رمضان، وأعيش مع أحداثه وأراجع التاريخ، الله ينكِّد عليكم من أول المُنتج لحد قنوات العرض نفسها، وطبعًا مش هقول المُشاهد، لأن المشاهد فعلًا اتنكد عليه، ولا أعفى من دعوة النكد المُخرج والمؤلف وبتاع الموسيقى التصويرية، وأيضًا الفنانين الذين قبلوا بالمشاركة في هذه المهزلة، وجه رمضان، وبدأت أشوف المهزلة، وبينى وبينك لو مكنتش شارى الشاشة الإل سى دى الستين بوصة بالقسط، كُنت ولَّعت فيها، أو رميتها في الشارع لكلاب السكك علشان أخلص منها ومن عارها، ومن اللى شوفته عليها، ولا يخفى على فطنة حضرتك ـ إن كُنت متزوجًا ـ إن فيه سبب إضافي، هو إنى لو رميتها في الشارع هاترمى أنا كمان وراها فورًا!
أولًا أداء (جمال سليمان) ركيك وسخيف وبارد، ولا يتفق مُطلقًا مع ما هو معروف عن حماس وحمية وقوة (عبد الناصر)، وهو ضعيف جدًا بحركاته وسكناته وردود أفعاله، لا حادًا ومسيطرًا وحازمًا مثل الزعيم الخالد، ولو قارنت بين أداء الراحل (أحمد زكى) لشخصية (ناصر) وبين أداء (جمال سليمان) فسيكون علينا أن نستعين بعشرات الحانوتية المُحترفين لجمع أشلاء حضرتك بعد أن تنفجر غيظًا وكمدًا من هذا الفشل الذريع.. يعنى لا صوت ولا لكنة ولا حضور، يا راجل ده بيظهر في الكادرات كأنه لابس طاقية الإخفا، لو عدت دبانة من ورا الكاميرا (مش من قدامها) بتخطف منه اللقطة!
ثانيًا هذا الفشل في التنفيذ جاء بعد فشل في التفكير ـ ربما ـ الخاطئ من صُنَّاع دراما لا أقول مبتدئين، لكن أقول متواطئين، أو راغبين ـ ربما تانى ـ في التسويق في سوريا، خاصةً وأن الأحداث تتطرق للوحدة بين البلدين، وربما كمان مرَّة خيَّل لهم فكرهم الغائب أصلًا، أنهم بهذه الطريقة قادرون على استغلال الأوضاع والحرب الأهلية في سوريا، لاستعادة السيطرة على سوق الدراما العربية التي فقدتها مصر في السنوات الأخيرة، وهو أمر محمود لو تم بشكل جيد، وأيام سيطرتنا على هذه الدراما لم نكُن نفعل ذلك بهذه الطريقة الساذجة، وإنما كُنا نمتلك عمالقة تمثيل حقيقيين، وعندما نستعين بممثلين عرب فوق راسنا، كُنا نمنح الدور المُناسب للمُمُثل المُناسب!
لقد نال (عبد الناصر) الكثير من الهجوم بعد وفاته (لم يكُن أحد بقادر على فعلها وهو حى والحق يقال بسبب الهيبة أو البطش سيان)، إلا أن هذا الاستخفاف بمُسلسل فاشل ومُمثل جامد غير قادر على الإبداع أو تطوير مستواه الفنى أو حتى تقليد اللكنة المصرية، هو أسوأ ما ناله (ناصر) من إساءة من سنة 1970 وحتى الآن، وربما إلى حين ملاقاتنا جميعًا لوجه رب كريم، بما يُمكننا أن نقول إن (جمال سليمان) قتل (جمال عبد الناصر)، وكُل ما أرجوه من فريق عمل المُسلسل أن يترك الأعمال التاريخية، وينتج أعمال بهججة وفرفشة، وكُل ما أتمناه منهم وأنا ببوس على رأسهم، ألا يحاولوا تصحيح هذه الجريمة عن طريق إنتاج جزء ثانى من هذا المسلسل، فيتم إسناد الدور المحورى الهام لواحد زى (سعد الصغير) أو (سامح حسين)، أو يصرّوا على استعادة الريادة العربية تانى، فيجيبولنا (داوود حسين)!