عم «مرقص».. الله يرحمه!
في ثمانينيات القرن الماضي، وفي المرحلة الثانوية، كنت حريصا على حضور المحاضرات والدروس الدينية، لبعض الشيوخ والدعاة الجدد آنذاك.. وكنت أتنقل من درس لأحد شيوخ جماعة «أنصار السنة المحمدية» إلى درس لأحد شيوخ جماعة «التبليغ والدعوة»، إلى محاضرة لأحد رجال جماعة «التكفير والهجرة».. كنت كمن يبحث عن طوق للنجاة، أو شاطئ للأمان والإيمان لأرسو عليه.
وذات يوم كنت في حضرة أحد شيوخ السلفية الكبار «رحمه الله»، وكانت المحاضرة عن طبيعة العلاقة بين «المسلمين وأهل الكتاب»، ووقتها رفعت يدي مستأذنًا الحديث، فأذن لي، فقلت: عم «مرقص» الله يرحمه كان..
قاطعني الشيخ: «مرقص»؟ والله يرحمه كمان؟!.. ثم واصل حديثه موجهًا كلامه لي وللحضور: أيها الأحباب.. الترحم والرحمة لا تجوز على غير المسلمين..
بعد انتهاء الدرس انتظرت الشيخ وسألته: كيف لا تجوز الرحمة على غير المسلمين وربنا قال في محكم التنزيل «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ».. فقال: أكمل الآية يا بني ستجد «فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ..»، واستشهد بقوله تعالى: «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».
فقلت: إن الله عز وجل لم يذكر «الرحمة» بل ذكر «الاستغفار»، وهناك فرق شاسع بين المعنيين، كما أنه، على حد علمي، لا يوجد نص قرآني مباشر، أو حديث نبوي صريح يُحرِّم طلب الرحمة من الله لغير المسلمين.. فقال: يا بني أنت مازلت صغيرًا، وعقلك لا يستوعب ما سأقوله لك الآن.. فلم أتمادى في النقاش معه، اعتقادًا أن الشيخ أعلم وأكثر فهمًا لآيات القرآن وأحكام الشرع الحنيف..
دارت الأيام والتحقت بكلية «دار العلوم»، وتخرجت فيها، بعد أن تعمقت معرفتي بالشريعة والفقه الإسلامي، وسؤال «لماذا لا يجوز الترحم على غير المسلمين؟»، كما أفتاني الشيخ، ظل يطارني..
إن الله تعالى قال: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»، ولم يفرق المولى، عز وجل، بين سائر البشر، المسلمين والمسيحيين واليهود، بل لم يفرق بين الحيوانات والنباتات والطيور والحشرات، وسائر الكائنات.. «رحمته» شاملة، جامعة.. «رحمته» لسائر خلقه.. «يَغفِرُ لِمَن يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا».. فلماذا يحاول البعض أن يُصوِّر هذا الدين- الذي يدعو إلى السلام والمحبة والتسامح والرحمة- بأنه يُحرِّم الترحم على غير المسلمين؟!
ثم إذا كان الله تعالى قال في محكم تنزيله: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ....»، فأليس من باب «البر» أو «تأليف قلوبهم» الترحم على موتاهم؟!.. وإذا جازت عيادة مرضاهم، واعتبرناها من البر ومحاسن الإسلام، ألن تجوز تعزيتهم أولى، سواء رجونا بذلك إسلامهم أو تحبيبهم في الإسلام؟!
وإذا كان بعض الفقهاء أجازوا الدعاء لأهل الكتاب بالرحمة، وهم أحياء، إذا كان يرجى هدايتهم إلى الإسلام، فما الذي يمنع «الترحم» عليهم وهم «أموات».. فـ«الميت»، أي ميت، مسلمًا كان أم غير مسلم، قد أفضى إلى ربه، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ولن يغير دعاؤنا لهم شيئا.