فانوس رمضان ورائحة عبق التاريخ!
أشياء صغيرة، قد لا تكون ذات أهمية للرجل العادي، قد لا يلتفت البعض إلى خطورتها، ويمضي الأمر، لكن دورنا أن ننبه، أن نحلل ونتساءل، أن نتشكك ونستفسر، وإذا ما كان تساؤلنا في غير محله، فإن سؤالا في غير محله، أفضل بكثير من اطمئنان في غير محله.
لماذا هناك إصرار غير عادي على تشويه شكل فانوس رمضان؟ لماذا كل عام وبشكل متصاعد يتم التلاعب بهذا الفانوس وتقديم شخصيات كرتونية أجنبية على أنها فانوس رمضان؟ وتقل كمية المطروح من الفوانيس التقليدية؟ ففضلا عن اختفاء الفانوس الذي كان يضاء بواسطة الشمعة؟ يقل الآن ويخفت تدريجيا الفانوس بشكله التقليدي ليحل بدلا منه فانوس على هيئة (سبونج بوب)، أو (شوان شييب)، أو حتى (كرومبو)؟
سأفترض حسن النية، وسأتحرر من فكرة المؤامرة العالمية، حيث إن التجارة كل شيء فيها قائم على العرض والطلب، و(الصين) لن تصنع شيئا لا يشتريه التجار والمستوردون المصريون، فمن ثم سأوجه رسالة لهؤلاء المستوردين: أرجوكم حافظوا على شكل الفانوس التقليدي وتوقفوا عن التوسع في استيراد أشكال وشخصيات تشوه شكل الفانوس.
كان «فانوس رمضان» تعبيرا عن خروج الوالي في احتفالية شعبية من أجل استطلاع الهلال، ويمرح الأطفال هنا وهناك في هذا الموكب بفوانيسهم الصغيرة منتظرين إعلان رؤية الهلال، وفي أثناء الشهر الكريم، فإن حمل الفوانيس دلالة الذهاب للمساجد للتعبد وللاعتكاف، وبعد انتهاء الصلاة، يحمله البسطاء في طريقهم إلى الزيارات المنزلية، لإحياء جلسات السمر وزيارات الأهل والأقارب، حتى يأتي وقت السحور، فيكون الفانوس المعين الأساسي للمسحراتي في تلمسه السير في الطريق المظلم، حتى يأتي الفجر، فيختتم المساء بالفانوس وقد أضاء للمصلين طريقهم ذهابا للمساجد.
كل هذه المعاني كامنة في هذا الرمز، الذي مع مضي الزمن ورغم عدم الاحتياج الفعلي له كوسيلة إنارة حاليا، إلا أنه صار أهم قطعة ديكور للشهر الكريم، لكنها قطعة ديكور تاريخية، تحفظ في داخلها الكثير من تاريخ مصر، وتطور وتوادد وتراحم أهلها وإضافتهم مذاقا خاصا للشهر الكريم عبر قرون طويلة، كل هذا في هذا الرمز لهذا الشكل الزجاجي الذي هدفه الإنارة، ثم صار هدفه الذكرى بما كانت مصر عليه، وإذا ما انزاح الشكل التقليدي للفانوس، فإننا نؤسس ساعتها للأشكال الأخرى التي تحل بدلا منه، إذا ما صرنا نردد أغاني أخرى غير (وحوي يا وحوي)، فإننا نتناسى أن هذه الأغنية تعني فرحة يا فرحة بالهيروغلوفية وقد غناها الأطفال احتفالا بخروج الهكسوس مهزومين من مصر في العصر القديم، ثم غنوها فرحة بمجيء الشهر الكريم في عصور أحدث، مثل هذه الأمور البسيطة لها دور كبير في الحفاظ على الهوية، فأرجو أن ننتبه لها، ولا نطلق العنان لمسايرة الشخصيات الكرتونية الأجنبية أو حتى العربية، وعلينا أن نجعل أبناءنا يشمون في الفانوس رائحة عبق التاريخ.