رئيس التحرير
عصام كامل

المصريون وتقرير المصير


فى الآونة الأخيرة انتشرت الدعوة إلى العصيان المدنى؛ كوسيلة لاحتجاج المواطنين سلميًا على السلطة الحاكمة أو بعض سياستها، ولإجبارها فى الوقت ذاته على تحقيق مطالب القوى الثورية، وخاصة بعد فشل الطرق الأخرى للاحتجاجات، وهذه الدعوة تستدعى للذاكرة ثورة 1919م التى استخدم فيها العصيان المدنى كأحد الأدوات القوية والفعالة فى إجبار بريطانيا على الاستجابة لإرادة الشعب المصرى.


أشعل شرارة تلك الثورة إلقاء القبض على الزعيم سعد زغلول وعدد من زعماء الوفد فى 8 مارس 1919م، وعدم السماح لهم بالسفر لعرض القضية المصرية فى مؤتمر الصلح بباريس، وهنا ارتسمت ملامح الغضب على القاهرة والمدن المصرية، وبدأت المظاهرات السلمية فى 9 مارس، وكان فى طليعة صفوفها طلبة المدارس والجامعة، ثم اتسع نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع طوائف الشعب فى كل المدن والقرى المصرية لتصاب مصر بالشلل التام، حيث تم تعطيل وسائل النقل والمواصلات ومرافق الدولة، وتوقفت المؤسسات الحكومية عن العمل بسبب انضمام العمال والموظفين إلى الإضراب.

قابلت القوات البريطانية تلك الاحتجاجات والمظاهرات السلمية بالعنف والتنكيل بالمتظاهرين، وقتل الكثير منهم بدون ذنب سوى (الهتاف باستقلال مصر وحريتها)، ويذكر المؤرخ عبدالرحمن الرافعى (أن أحداً فى إنجلترا لم يكن يتوقع أن يثور الشعب المصرى الهادئ الوديع، وأن تكون ثورته بهذه العزيمة وبهذه الجرأة)، ولذا سارع عدد من الصحفيين والكتاب السياسيين إلى دراسة وبحث (كيف ولماذا ثار الشعب المصرى؟)، والذى كان يُعتقد أنه راضٍ عن الحكم البريطانى فإذا به يعمد إلى الثورة للتخلص منه.

ونظرًا لتفاقم الأوضاع وفشل بريطانيا فى قمع الثورة بالقوة، قررت المهادنة وكسب قلوب المصريين بالإفراج عن زعماء الوفد، وإرسال لجنة برئاسة اللورد ملنر؛ وزير المستعمرات البريطانية آنذاك؛ وذلك للوقوف على أسباب الثورة، وتقديم المقترحات لتهدئة الأوضاع فى مصر، فما كان من المصريين إلا أنهم قاطعوها، واحتجوا عليها بنفس الأساليب التى قاوموا بها سابقًا قرارات السلطات البريطانية عند بدء الثورة، وعادت السلطات البريطانية إلى سياستها القمعية للسيطرة على الموقف، وذلك باعتقال المتظاهرين، وتهديدهم بالمحاكمات العسكرية، كما هُدد الطلبة الذين كانوا فى طليعة المتظاهرين بحرمانهم من دخول الامتحانات إذا لم يواظبوا على دراستهم، وكمحاولة لقصف الأقلام حمَلت بريطانيا رؤساء الصحف العربية المسئولية عن نشر ما يحرض على الإضراب أو يدعو إليه، ثم أعادت الرقابة على المطبوعات، واحتجاجًا على تلك السياسة أضرب مديرو الصحف العربية، ومنعوا إصدار صحفهم لمدة ثلاثة أيام.

وعقب وصول ملنر لمصر أبدى عدة ملاحظات على تلك الاحتجاجات والإضرابات كان أهمها؛ أن هناك من يحاول استخدام الطلبة والغوغاء لتحقيق أهداف معينة، بالإضافة إلى اختلاف الشخصية المصرية قبل وبعد ثورة 1919م، وأعتقد أن الملاحظة الثانية تنفى الأولى، فحالة النضج والوعى الذى وصل إليه المصريون هى من دفعتهم إلى رفض الظلم والفساد والقهر، ومن العجيب حقًا أن الأسباب التى استنتجتها لجنة ملنر للعصيان المدنى الذى شهدته مصر آنذاك لا تختلف كثيرًا عما نعيشه الآن، فقد كان من بينها معاناة المصريين من استحواذ فئة معينة (البريطانيين) على الوظائف، وزيادة رواتبهم بالرغم من انخفاض مستوى الكفاءة والخبرة، فشل سياسة التعليم التى أدت إلى تخريج أعداد زائدة عن الحاجة، ارتفاع أسعار السلع الأساسية كالقمح والوقود وغيرها مع ضعف الأجور، بالإضافة إلى زيادة وعى المصريين بحقوقهم نظرًا لاحتكاكهم بالآخر، وفى ضوء تلك الاحتجاجات اضطرت بريطانيا إلى الرضوخ لإرادة الشعب المصرى، وقبلت إلغاء الحماية على مصر، والتفاوض على استقلالها، وصدق أبو القاسم الشابى حينما قال: إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة.. فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ، ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلى.. ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ.

الجريدة الرسمية