رئيس التحرير
عصام كامل

جلال أمين يواصل تحليل ظاهرة الفقر في العالم.. "رأس المال في القرن العشرين" يكشف أسباب زيادة ثراء الأغنياء.. 1% من البشر يحصلون على أعلى الدخول.. الغرب احتل العراق ليضع يده على النفط بعد رفض غزو الكويت

جلال أمين
جلال أمين

استكمل اليوم الاقتصاى الكبير جلال أمين دراسة أسباب زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وسبل القضاء على هذه الظاهرة، وذلك من خلال عرضه لكتاب "رأس المال في القرن الحادى والعشرين" للمؤلف الفرنسى توماس بيكيت.

وقال أمين في مقاله المنشور اليوم بجريدة "الأهرام" "غضب اليمينيين، من أنصار الرأسمالية وحرية السوق غضبا شديدا على كتاب الرأسمالية في القرن الحادى والعشرين للاقتصادى الفرنسى توماس بيكيتى (T.pikeTTY) الذي نشر منذ أشهر قليلة وأحدث ضجة كبيرة واحتل مكانا ثابتا بين الكتب الأكثر مبيعا كان هذا الغضب مفهوما تماما.

فالكتاب حاول أن يدلل عن طريق دراسة رصينة ومدققة ومدعومة بإحصاءات موثوق بها، على أن اللا مساواة في الدخل والثروة تزداد عمقا في العالم الرأسمالى خلال فترة تزيد على قرنين، وأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء سوف تستمر في الزيادة، على الأرجح خلال القرن الحادى والعشرين، ما لم تتدخل الدولة لإعادة توزيع الثروة والدخل."

وأضاف "لكن الكتاب أبرز بقوة أيضا الاتجاه الحديث، خلال الثلاثين عاما الماضية، للاتساع الرهيب بين ثروة ودخول نسبة ضئيلة جدا من السكان (أقل من 1% بل وقد تكون أقل من عشر هذا القدر) وبين ثروة ودخول سائر الناس، ليس فقط بسبب زيادة الأرباح بمعدل يفوق زيادة الأجور، بل وأيضا المكافآت والمرتبات الخيالية التي تحصل عليها الشريحة العليا من المديرين ورؤساء الشركات، ويحرم منها ما دونهم من عاملين.

إن بيكيتى يرفض بحدة ما يقدم من تبرير لهذه المكافآت والمرتبات الخيالية بأنها مقابل مساهمة الحاصلين عليها في زيادة الإنتاج والأرباح، إنه يسخر من هذا الزعم بقوله إنه ليس هناك أصلا طريقة لقياس «إنتاجية» هؤلاء المديرين والرؤساء الكبار، ولا أي أساس لنسبة «النجاح» الذي تحققه شركاتهم إلى شىء قاموا هم به دون غيرهم.

ويقول إن هؤلاء المديرين والرؤساء يقررون (بين بعضهم البعض) ما شاءوا من مكافآت لأنفسهم، ثم يشيعون الاعتقاد بأنهم لم يحصلوا على أكثر من المقابل العادل لتضحياتهم."

وأشار أمين إلى أن بيكيتى يرفض أيضا اعتقادا شائعا بأن التقدم التكنولوجى المستمر (الذي اقترن به تطور الرأسمالية) يحمل في طياته عاجلا أو آجلا، التقريب التدريجى بين الناس أي اقترابا تدريجيا من المساواة، ويقول إن التقدم نحو مزيد من العقلانية الاقتصادية والتكنولوجية لا ينطوى بالضرورة على تقدم نحو مزيد من الديمقراطية أو نحو توزيع للدخل أقرب إلى العدالة، والسبب الرئيسى لذلك بسيط للغاية وهو أن التكنولوجيا شأنها شأن نظام حرية السوق، لا تعرف لها حدود ولا أخلاق (ص 234 من الطبعة الإنجليزية).

أما الزعم بأن التقدم في التعليم واكتساب مهارات جديدة من شأنه أن يخفض من حجم الفجوة بين الناس، ويقربنا من المساواة فإنه لو كان صحيحا لكان شأنه أن يظهر هذا التقدم بشكل متدرج بين شريحة اجتماعية وأخرى بدلا من هذا الاستقطاب الحاد في الدخل والثروة بين نسبة 1% من السكان التي تحصل على أعلى الدخول وبين بقية السكان فإذا كان هذا التفاوت الرهيب يرجع حقا إلى زيادة الإنتاجية فإن هذا من شأنه أن يلقى ضوءا مخجلا للغاية على نظام التعليم في أمريكا مثلا، مادام هذا النظام لا يسمح بزيادة الإنتاجية المزعومة إلا لهذه النسبة الضئيلة جدا أعلى السلم الاجتماعى (ص 330)."

وتابع "لكن بيكيتى يلفت النظر أيضا إلى حقيقة أخرى مؤلمة وهى أنه وإن كانت اللا مساواة الآن في مجتمع كالولايات المتحدة وكثير من المجتمعات الأوربية، تزداد شيئا فشيئا حتى تكاد تقترب مما كانت عليه في القرن التاسع عشر، فإن الدفاع عن اللا مساواة الآن يقترن بدرجة من القسوة تزيد عما كان الحال في ذلك القرن فلا أحد كان يزعم في القرن التاسع عشر أن الثراء الفاحش كان سببه عبقرية الثرى أو مزايا خاصة فيه تتعلق بعقله أو كفاءته الشخصية كان الجميع يعرفون ويعترفون بأن سبب الثراء هو الانتماء إلى أسرة ثرية ورثت أموالها أبا عن جد، أما الآن فإن الفكر السائد يؤكد أن الفقير يستحق ما هو فيه من فقر، لأسباب تتعلق بصفات شخصية فيه !"


ونقل أمين عن بيكتى قوله "لا أجد من أبطال أو بطلات روايات جين أوستين أو بلزاك مثلا (منذ قرنين من الزمان) طرأ بباله قط أنه يحتاج لتبرير ثرائه بالمقارنة بفقر من يقوم بخدمته، بذكر مناقبه الشخصية (ص 418)."

وأوضح الاقتصادى المصرى أن "في كتاب بيكيتى بضع صفحات قد تهمنا نحن العرب بوجه خاص إذ تتناول اللا مساواة في توزيع ثروة البترول، مما يحقق في النهاية مصالح شركات البترول في الدول الأكثر قوة وثراء يذكر الكتاب القارئ بأن اللا مساواة في توزيع البترول في العالم العربى ترجع إلى حد كبير إلى الطريقة التي تم بها رسم الحدود الفاصلة بين دولة بترولية وأخرى، والتي حددتها أطماع الدول الاستعمارية وما بينها من تنافس، ويقول إن شركات البترول وحكوماتها كانت (ولا تزال فيما يبدو) تفضل أن تتعامل مع بلاد صغيرة وقليلة السكان من أن تتعامل مع بلاد أكثر سكانا.

ثم حدث في 1990 ـ 1991 أن قامت العراق بغزو الكويت الأصغر سكانا بكثير فكان رد فعل الدول الغربية ذات المصلحة أن أرسلت جيوشا من تسعمائة ألف جندى لإعادة بترول الكويت إلى الكويتيين، ولكن بعد إثنى عشر عاما (في سنة 2003) غزت القوى الغربية نفسها العراق لوضع يدها على بترولها، يستخلص بيكيتى من هذا أن الحكومات المعنية تعبأ فورا قوة عسكرية ومادية كبيرة لتنفيذ ما تريد تنفيذه متى رأت مصلحة الشركات في ذلك."

وأكد أن "لا ترى هذه القوى أي مبرر لتصحيح نوع آخر من اللا مساواة فيذكر بيكيتى مثلا أن ميزانية التعليم في مصر لكل أنواع التعليم من الابتدائى إلى الجامعى، لسكان يزيد عددهم على 85 مليون نسمة أقل من خمسة بلايين من الدولارات، وفى مقابل ذلك وعلى بعد بضع مئات قليلة من الكيلو مترات، تحصل المملكة السعودية لسكان عددهم 20 مليونا على دخل من البترول ثلاثمائة بليون دولار سنويا وتحصل قطر بسكانها الأقل من البلدين على أكثر من مائة بليون دولار سنويا ويضيف بيكيتى ولكن المجتمع الدولى لم يحزم أمره بعد فيما إذا كان من الواجب تقديم بضعة ملايين من الدولارات كقرض لمصر، أم ينتظر حتى تقوم مصر بتنفيذ ما وعدت به من زيادة الضريبة المفروضة على بعض المشروعات والسجائر (ص 538)"

واختتم جلال أمين مقاله قائلا "كان لابد أن يثير مثل هذا الكلام غضب وغيظ كثيرين من المدافعين عن النظام القائم والعلاقات الدولية الجارية فاتهم البعض بيكيتى بأنه ماركسى وأثار آخرون الشك في إحصاءاته واستبعد البعض أن تتحقق توقعاته باستمرار وزيادة اللا مساواة في المستقبل، إذ رأوا أن هناك حدودا لا يمكن أن يتجاوزها الثراء وتساءل آخرون عن جدوى الاهتمام باللا مساواة أصلا في عالم يزداد رفاهية يوما بعد يوم، ولكن الطريف أن الغضب الذي اثاره كتاب بيكيتى لم يقتصر على الكتاب اليمينيين بل تجاوزهم إلى كتاب اليسار الذين وجدوا أيضا في كتاب بيكيتى ما يثير حفيظتهم وغيظهم ولكن هذا يحتاج إلى مقال آخر."
الجريدة الرسمية