قنا بين التنمية والقبلية
هي محافظة جميلة، رغم ما بها من بؤس إلا أن لها طعما خاصا ومذاقا خاصا، بالتأكيد هي مختلفة تماما عن الصورة التي ظهرت في مسلسلات «محمد صفاء عامر»، وأيضا عن الصورة التي ظهرت في مسلسل «شيخ العرب همام»، هي حالة خاصة من الأصالة والارتباط بالأرض والناس، لكن مشكلاتها كثيرة، وهمومها أكبر، فعدد المصانع فيها قليل، وفرص العمل أقل، وبنيتها الزراعية تعاني المشكلات العديدة مع أزمة الأسمدة، ومع اشتراطات محصول القصب، فضلا عن التعدي الجائر من أجل المباني – خاصة مع وصول ثمن القيراط الواحد لأكثر من نصف مليون جنيه للمباني، أما الناحية التعليمية فمع اللامركزية فإن عنصر القبلية يتوسع أكثر وأكثر، وغيره من المشكلات، لكن الأهم ضعف الوعي الصحي والبيئي، والثقافي بشكل عام، هي منبع للخير لو اهتممنا بها وبأهلها، وفاتحة للمشكلات لو تراكم الإهمال.
مشكلة قنا الجوهرية القبلية، ولعلني لا أبالغ إن قلت إننا قد وصلنا لحالة «الفساد القبلي»، أقصد أن القبلية على مر التاريخ لعبت دورا هاما في الحفاظ على بنية محافظة قنا، فكان شيخ القبيلة ملزما بأن يرعى فقراء القبيلة قبل الأثرياء، يحفظ لنا التاريخ مقدار ما بذله العديد من شيوخ القبائل في مواجهة الاحتلال، ومواجهة الفواجع الطبيعية كالفيضانات والأوبئة وغيرها، في مثل هذه الظروف كانت خزائن شيخ القبيلة فضلا عن نفسه في المقدمة تزود وتدافع عن الناس، وتكمل دورا لم يكن موجودا من مؤسسات الدولة في مراحل تاريخية مختلفة.
لكن مع الحياة البرلمانية، ومع تغير القيم، حدث تلاعب بمسئوليات زعماء القبائل، فذهب البعض منهم يبحث عن مصالحه الخاصة، يبحث عن أن توفر له قبيلته الحماية لمقعده البرلماني، لا أن يوفر هو الحماية للقبيلة ولباقي الناس، بالتأكيد ليسوا الكل هكذا، لكن الظاهرة موجودة ويمكن دراستها، وأشعر أن الدولة تقف في أوقات كثيرة موقف الحائر، فلا هي تحارب القبلية وترسخ لمفهوم الدولة، وتصبح السيادة للقانون على الجميع، ولا هي تعطي صلاحيات حقيقية للأعيان وللأحكام العرفية، رغم اللجوء غير الرسمي في الكثير من الأمور للجان الصلح وقضاة الدم وغيرهم.
على الدولة أن تحسم هذا الصراع، وأن تحدد ما الموقع القانوني بالضبط الذي يجب أن تتحرك فيه القبلية، لو كانت تريد أحكاما عرفية ولجان مصالحات، فلماذا لا تفكر الدولة في أن تجعل زعامة القبيلة بالانتخابات؟ بدلا من الأوجه المعتادة منذ عشرات السنين؟ لو كانت تفكر في سيادة القانون، فإن عليها أن تضع خطة تدريجية لتأصيل ثقافة الدولة في مواجهة العصبية القبلية – فليس باليسير استئصال هذا الفكر لكنه ليس مستحيلا أيضا، لكن قمة الخطر في ترك «القبلية» في هذه الحالة غير الواضحة بالنسبة للقانون وسيادة الدولة، قمة الخطر في الاعتراف ضمنيا بالقبلية والتظاهر بإهمالها رسميا، لأن في هذه الحالة ستخترق القبلية الدولة وليس العكس.
وليس أدل على ذلك ما نراه من اختصاص عائلات بعينها بوظائف بعينها، فهذه منها أساتذة الجامعة، وهذه منها المستشارون، وهذه منها الدبلوماسيون، وهذه قطاع البترول، وهذه العمل في الخارج، بل يصل الأمر لاختصاص بعض القبائل بسيادة في دول معينة، فهناك قبائل لها امتدادات مع ليبيا وأخرى مع السعودية، وغيرها مع الكويت، وهكذا، إن هذا الملف أعتقد أنه بحاجة للاهتمام والإدارة الجيدة، وخصوصا في قنا، التي تحتاج لتنمية عاجلة، ولحل لمشكلاتها المتراكمة.