رئيس التحرير
عصام كامل

جعلونى متحرشًا


منذ بدء ملحمة «كوز المحبة اتخرم» القومية، والأمور في بلادنا تتجه إلى ما هو أبعد بكثير من فكرة التحرش الجماعى ببناتنا على قارعة الطريق، فقد كانت بداية كل تحرش تاريخي تنطلق من موسيقى الشعب، وشعره، وغنائه، وقدوته، وكتابه، ومفكريه.. والحقيقة التاريخية تقول بأننا ملأنا أسماع أبنائنا بما هو أخطر من التحرش؛ ففى الصباح الباكر تنساب إلى آذانهم أصوات تحمل من القيم الهدامة ما لم تحمله أفكار الأعداء لنا، ويكفى الشاب فخرا أن «اصطباحته» قد تنحصر في التعبير عن رغباته المكبوتة بإعلان أحد المطربين الشعبيين «أنا  شارب سيجارة بنى» أو أنه يحمل دعوة التركيز على البودرة باعتبارها «بتعمل دماغ» أفضل وهمًا من الحشيش الذي عاد بقوة.

ويمضى الشاب في طريقه إلى مدرسته -إن وجد له مكان-؛ ليتنقل في شوارعنا بتلك الآلة المهينة المسماة توك توك، فإن كان أفضل حظا فإنه سينتقل بالضرورة بالميكروباص أحد أهم وسائل المواصلات، ليستمع -رغما عنه- إلى إذاعة هزمت بما تحمله.... كل ما قدمه عظماء الإذاعة المصرية، عندما كان لدينا إذاعة.. وعلى شاكلة «كوز المحبة» ونوع السيجارة، وفوائد كأس البيرة «المشبرة» نسبة إلى الشبورة التي تكتسى بها زجاجاتها الخضراء؛ نتيجة الحبس في ثلاجات أعدت لذلك خصيصا يستمد الشباب إطلالتهم الصباحية يوميا.

سيحاول الشاب الذي لم يصل بعد إلى طور المتحرش الفعلى الهرب من هذا المناخ القاسى إلى مساحة من التنوير.. يذهب مساء إلى دور العرض السينمائى، كانت قديما ضوء مصر في عالمنا العربى وسيجد حتما في انتظاره عائلة السبكى تعرض لحمها الرخيص في علب ليلية،، وسيجد بطلا مغوارا يقضى الليل في لف البانجو، وعاهرة أطلقوا عليها مجازا لقب فنانة، تتلوى على خشبة مسرح حقير تعرض بضاعتها طوال الفيلم.

لاشك أن ذلك الصبى سيخرج محملا بشحنة من الأخلاق صناعة آل السبكى، وكتاب لا يقلون دموية عن جزارة الحاج؛ لينطلق مستغفرا حينا؛ أو حاملا لشحنة جنسية مضاعفة سيحاول جاهدا أن يكبتها أو يداريها.. يمر في الشوارع إلى أن يصل إلى الحارة الشعبية التي لا يرى فيها إلا صنوف الكيف، للدرجة التي رفعت فيها لافتات على البيوت تقول: «هنا نبيع الحشيش والبانجو والترامادول».

سيقاوم الشاب ما فرضته عليه ظروف الإقامة في منطقة أنشئت بليل في زاوية ضيقة من زوايا القاهرة المتضخمة إلى أن يصل إلى البيت.. لن يسأله أبوه عن سر تأخره، فالأب مشغول بما هو ليس أبعد من ظروف الحارة المغلفة بالدخان، سواء كان أزرق، أو أسود.. الشاب الذي سيبحث له عن مكان يلقى فيه بجسده المتعب، قد لا يجد سوى مساحة أضيق من رئته بجوار أشقائه الخمسة أو الستة، وحتما لن يختلط الحابل بالنابل، وسوف يسترها المولى عز وجل.

ربما يكون الشاب محظوظا، فيتجه في الصباح الباكر إلى ذات الرحلة المحاطة بكل صنوف الهدم الاجتماعى، ومن ثم سيلحق بطابور الصباح في مدارس لا تعرف من الصباح إلا التلوث المسيطر على كافة الأجواء.. سيدخل الفصل ضمن ثمانين تلميذا محشورين في علبة سردين عفنة. ومن أمامه مدرس قد يتبادل معه سيجارة بريئة لزوم التقرب من تلامذته، إن لم يصل الأمر إلى فكرة العرض والطلب.. بقدر ما تدفع تتعلم وقد تدفع فتحصل على الامتحان دون صداع الدراسة والحفظ.

ينتهى اليوم الدراسى إما قفزا من فوق الأسوار، أو سيرا حيث سقطت الأسوار.. ينطلق إلى عالم المرح والمتعة في نفس الرحلة، وقد يقاسمه أمين شرطة فقد ضميره تحت وطأة الحاجة، فيما يحمله جيبه من قطع بنية، أو سجائر ملفوفة باحترافية لا نملك أمامها إلا أن نقول «تسلم الأيادى» فإن مضى إلى طريقه، فإن الدائرة تدور حيث لا مراكز شباب ولا قدوة في مدرسته، فإن هرب إلى الفضائيات فسوف يجد في مواجهته «التت» أو برامج توك شو لا تقل إثارة عن قنوات البورنو الغنائى.

وأمام حالة التحرش المجتمعى التي تحاصر الكل، يجد الشاب نفسه أمام حقيقة لا مهرب منها، حيث لا يفل الحديد إلا الحديد.. يمارس التحرش سرا وجهرا، ويصبح جزءا لا يتجزأ من عملية تحرش تبادلية؛ فيصير المتحرش به متحرشا محترفا، وتصحو مصر من غفلتها في ميادينها، وشوارعها، وحواريها، وأزقتها على مشاهد صادمة أو هكذا تحاول أن تعتبرها صادمة، وينطق الجميع في نفس واحد: هل هذه أخلاقنا؟ ينطق بها متحرشون محترفون، مثلما تنطق بها الضحايا وتتوه الحقيقة.. حقيقة الصرخة المكتومة التي لم ينطق بها بطل الفضيحة.. جعلونى متحرشا !!
الجريدة الرسمية