الأبنودى: رسمة كاريكاتير تزلزل نظامًا.. وأقضى ما تبقى من عمرى معارضًا
مرسى وقع فى أخطاء مبارك والسادات.. وغير قلق بشأن المستقبل
رغم قدرته الهائلة على التعامل مع " الأبنودى" المريض بداخله, كانت آلام الرئة تنتظره فى هذه الساعة، فـوقته، وحدته، أدويته الكثيرة، ذرات الأكسجين المكلف باستنشاقها يوميًّا، أجبرته ليرحل بعيدًا عن الضوضاء والتلوث بحثًا عن عدد غير معلوم من ذرات الأكسجين تتناسب وهذه العلة الساكنة رئتيه.
فهو هناك لأكثر من عامين، يعيش فى قرية صغيرة على أطراف مدينة الإسماعيلية، يمضى النهار، والنهار هناك فى شريعة حديقته تنتهى ساعاته عصرًا، ساعات قليلة تشبع مشاعره وتملأ صدره بالتفاصيل الصغيرة قبل أن تملأه بهواء نقى مجبر على استنشاقه، يتابع الأحداث ويرتقب حلم البسطاء منذ أن هبت رياح ثورة 25 يناير العام الماضى، تمامًا وكأنه يقلد عمته العجوز "يامنة"، فالأخيرة فى قصائده طالما انتظرت الموت خلف بابها الخشبى القديم إلى أن ملّت مجيئه فرحلت هى برحيل أبنائها.
الشاعر عبد الرحمن الأبنودى وفى رقة "حَرَاجِى القط"؛ هذا المؤدب العاشق لعرقه المتناثر بين الشمس وصخور الجبال فى مدينة أسوان من أجل بناء السد العالى، قال وبحسرة عاشق أيضًا: إن كل وعود الرئيس محمد مرسى أمنيات مغلفة لا أكثر ولا أقل، تماثل فى حقيقتها وعود "حَرَاجِى القط" لزوجته البائسة "فاطنة أحمد عبد الغفار"، فهى تذوب شيئًا فشيئًا بين الشوق والخوف.
"فيتو" حاورت الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، ووضعت أمامه حال وطنه وأوضاع الوطن العربى، فكان وطنه ثورة خرجت من ميدان التحرير لتمر بمأزق وحالة مخيفة، ووطنه العربى واقع تحت الخيمة الأمريكية وحراسة إسرائيل، وهنا خرج الحوار من منطقة الردود، وتطرق الحديث إلى مناطق أوسع من ذلك.
◄ عاصرتَ ثورة يوليو 1952 وعبّرتَ عنها بأغانى كانت أكثر من رائعة، وفى ثورة يناير كانت تُسمع وكأنها مكتوبة - اليوم ولهذه الثورة، ولكن هناك شىء ما ينقصها جعلك غائبًا عنها بهذا الشكل باستثناء ديوانك الأخير "الميدان"؟
ما ينقص الثورة أنه لا يوجد ميدان التحرير الذى نتكلم عنه أنا وأنت الآن، اختلفت ملامحه، وأصبح شائهًا إلى أبعد الحدود، الآن لا بد أن نطوى صفحته ونتكلم عن الثورة، تلك الصغيرة تمر بمأزق وحالة مخيفة، وعلى الشاعر أن يكون عميقًا جدًّا فى تناول ما يجرى من حوله بعد أن صارت اضطرابات اللحظة لا يصلح معها سوى الكتابة السياسية، ومربعاتى فى جريدة التحرير كانت التقطير الأصفى لهذه التجربة العميقة.
فاللحظة دائمة الإبداع، ولكن الإشكالية دائمًا هى إشكالية المبدع نفسه، فهو قبل كل شىء إنسان عادى يمر بتضاريس نفسية ومشاعر متباينة وظروف مختلفة قد تصعد وتهبط به فى كل الحالات، فإن الشعر هو زهرة اللحظات المتوازنة داخل الشاعر وخارجه، فبين شخصه وشخصيته المستلهمة كان انقطاع الشعر؛ لأنهم أضرّوا بالشاعر فى داخلهم فرحل عنهم الشعر، لا بد أن تكون علاقة المبدع بنفسه سوية متسقة الفكرة مع مشاعر تؤمن بقيمة الدور الذى تلعبه.
◄ فى رأيك هل ستنجح اعتصامات واحتجاجات المثقفين باعتبارها وسيلة للضغط؟
- المصادرات الحقيقية لم تبدأ بعد، وعلينا أن نعرف أن الاستيلاء والإقصاء والمنع والتكفير سوف يعود وبقوة فى القريب، وعلينا أن نكون جبهة قوية فى مواجهة الإخوان المسلمين، فالإخوان جاءوا فقط لإطفاء نور الثقافة، والمجتمع هو من مد يد الجهل والفكر الظلامى لهم.
فنحن محكومون من قِبَل تنظيم يقوده المرشد العام بمفكريه وواقعه المضىء منه والمظلم، وعملائه وحراسه، وأنا لا أحب الاستجابات السريعة وموافقتى بعيدة؛ لأنى لا أريد التهوين من أمر الثورة، ومهما جمعنا من أعداد حولنا لا نستطيع أن نحشد ما حشده الإخوان بسرعة البرق، وهنا لو قلت بأننى ضد هذه الاحتجاجات سأدعى خاذل الوطنية داخل المثقفين ونشمت الآخرين، والكل يعلمهم جيدًا، ما يجب فعله أن يشعر البسطاء بهذه الاحتجاجات والتظاهرات، آن الأوان لنتجه إلى الجماهير البسيطة بدلًا من أن نتجه نحن نحو بعضنا البعض، ما عليه النخبة الآن معروف فقط للنخبة، وعلينا أن نذهب بهذا كله للناس، فالمسيرات والتظاهرات مقيدة، وما زلت أقول إن – مثلا- القرى فى مصر لم يعرفوا بالتظاهرات الأخيرة للمثقفين أو الثوار، أخشى أن نستكفى بعضنا ببعض ونصنع من أنفسنا طليعة وجماهير، والبسطاء هناك فى القرى والنجوع غائبون عن الحدث.
◄ أريد أن أعرف تقييمك لأداء الدكتور محمد مرسى منذ توليه رئاسة الجمهورية وحتى الآن؟
- الدكتور محمد مرسى وقع فى خطأ من سبقوه، حسنى مبارك ومن قبله السادات، الثلاثى أعتقدوا أن الشعب فى جيبهم، والرئيس الحالى وقع مجددًا فى خطأ تصديق الشعب، وغالبًا ستكون النهايات متشابهة لأبعد الحدود، فالقرارات التى وعدنا بها لم يتحقق منها شىء، وما يؤكد تلك النقطة مشروع النهضة وبرنامج المائة يوم ما سبقها وما تلاها، ذلك لأن القرارات هى فى الحقيقة أمنيات مغلفة بأوامر بعيدة عن الواقع الموضوع للناس، وأنا لا أحب اللهاث خلف الأقوال والقوانين، أحب دائما أن لا أرفع عينى عن الواقع؛ لأنه يومًا بعد يوم يزداد مأساوية ومعاناة وانفصالا عن الأقوال الرسمية، لذلك وبسخرية شديدة نحن نستهلك هذه الأقوال فى جلساتنا وسخريتنا .
أما عن وعوده أرى أنها وعود غير علمية، فالأقوال شىء والأفعال شىء آخر، والواقع لا زال يئن تحت ثقل الحياة، وأنا لست من النوع الذى ينام وهو يحلم بأن ربنا سوف يحل المشاكل كلها غدًا؛ لأن هذا بلد يجب أن يعتمد على العلم والعلماء والمثقفين الذين لا يعرف الإخوان أو السلفيون عنهم شيئا، بسبب أنهم عاشوا طوال تاريخهم تحت الأرض، والآن وهم على سطح الأرض أيضا لا يعرفون هؤلاء المثقفين، وتستطيع أن تستشهد بكتابات كبار هؤلاء المثقفين لحل أزمات الواقع.
◄ هل لديك تفسير محدد لما يحدث من عامين فى المنطقة العربية؟
- المنطقة العربية واقعة تحت الخيمة الأمريكية وتحت حراسة إسرائيل، وما يتم فى سوريا الآن محاولة لإلغاء سوريا القديمة مقابل تمكين الإخوان المسلمين لفرض اتجاهاتها الدينية تماما على المنطقة العربية، مثل ما يحدث فى مصر الآن، ثم تقسيم الوطن العربى بأكمله بعد أن نستهلك فى المعارك الداخلية بين الشعب والسلطة، الأمر يحتاج لحوار عنيف وليس لكلمات، فالمنطقة تتحرك كما تحب لها أمريكا والإخوان المسلمين.
◄ وماذا عنك شخصيًّا؟ إلى أى مدى يراودك إحساس القلق والخوف بعد نجاح الإخوان المسلمين فى السيطرة على مؤسسات وهيئات الدولة؟
- لم يَنْتَبْنِى حتى الآن قلق بشأن المستقبل، ولن أحس بهذه الحالة التى أحسها الكثير من الأدباء والمبدعون، الذين كان لهم حق شرعى فى خوف يتناسب وهيمنة التيارات الإسلامية الصاعدة وبيدها جفاؤها ورفضها الواضح للإبداع والأدب.
إحساس القلق الذى يفارقنى ليس تفسيره التفاؤل مطلقًا، فأنا قضيت حياتى كلها معارضًا وثوريًّا، لم يُنِر طريقى فى أحلك ظلمات الوطن سوى كلماتى المتناثرة هنا وهناك، لذلك ليس بالشىء المحال أن أقضى ما تبقى من حياتى معارضًا، فقلبى لن يكف عن الاستجابة لأنين الوطن، وعينى لن تفارق مراوغات الحكام لترى الحقيقة، وما لم يُخِفْنِى فى السابق لن يرعبنى مستقبلًا.
◄ هل لديك رسالة توجهها للمبدعين فى ظل هجمات الإخوان المسلمين على الإبداع والثقافة؟
- على المبدعين بكل أشكالهم وأدواتهم أن يقفوا صفًّا واحدًا؛ ليعرفوا أن قصيدة أو لوحة أو رسمة كاريكاتيرية كفيلة بأن تهز نظامًا مهما تنوعت أدوات فساده، بل كفيلة بأن تزرع فى قلوب الكثير مزيدًا من الشجاعة الكافية لمواجهة ظلم الحكام. يجب ألا نخشى مواجهة المستقبل بكافة ملابساته ومفارقاته وألغازه المقبلة، فأبدان المصريين قد "خشّنتها" الظروف القاسية، وصارت غير قابلة للتشكيل بين أيدى طاغية جديد.