رئيس التحرير
عصام كامل

وصية منصور


تبدأ مصر ٤ سنوات من حكم سابع رئيس لها منذ ثورة يوليو عام ١٩٥٢، تبدأ حياتها مع رجل استدعته ليقودها وسط حزام من النيران والبراكين، من تحتها ومن حولها، وهي إذ تتهيأ لتحديات جسام، فإنها قد وضعت في وجدانها وصية حاكم استدعته هو الآخر إلى مهمة وطنية، ليجهز البلاد لاستقبال رئيس جديد، أوصاه فأحسن الوصية. 

وبقدر الفرحة السابغة، وروح التفاؤل العامة، فإن الناس وهي تستقبل رئيساً أرادته، لم تدر ظهرها لرئيس سقطت في حجره السلطة كما تسقط المصيبة، فلم يتأفف، ولم يتكسب، ولم يتحسب لمراوغة، والحق أن حبالاً من الورد والعطر والمودة، سرعان ما امتدت ونمت بين الرئيس القاضي المستشار عدلي منصور، وبين كافة أطياف الشعب، عدا القتلة والخونة والإرهابيين بالطبع، وكانت هيبته وطلته، ووطنيته، وطيبة قلبه، وزهده، جميعها بمثابة مفاتيح أتاحت له استيلاءً كاملاً على احترام الشعب المصري وتقديره وامتنانه.

ويعد خطاب الوداع الذي سطره الرئيس منصور، وثيقة أدبية سياسية، أخلاقية من الطراز الرفيع، بل إن الخطاب السياسي المصري، على روعته في عصر جمال عبدالناصر، بصياغات محمد حسنين هيكل، وأفيوناته السياسية لتخدير الجماهير أو تعبئتها، لم تبلغ ما بلغته عبارة القاضي الأديب الأريب عدلي منصور، ليس فقط رصانة واتزانا وسلاسة وعاطفة جياشة، بل أيضًا لأن الأحداث التي خاضها والمعلومات التي تكشفت بين يديه، أمدته كلها بقدرة إضافية على دقة التصوير وعلى تجديد التعبير.

في تاريخ الروعة، أيضًا يبرز خطاب الزعيم السادات وسط أعدائه في الكنيست الإسرائيلي، هاجمهم في عقر دارهم، داعيًا إلى السلام والمحبة، لكن وصية منصور ستبقي الأعظم والأرفع والأشجع، فهي تشخيص، وتلخيص، ونصح ساطع، باتر، من رئيس مجرب لسع النار إلى رئيس مقبل على حفر من جهنم.

عدلي منصور أول رئيس يودعنا، دون أن نودعه قبرا ولا سجنا ولا قفصا، وهو رجل اجتمع فيه صحيح الدين مع صحيح الضمير، مع كمال الزهد.
كيف تنحني السلطة للزهد ما لم يكن للأخير سلطانًا على الزاهد ؟!
عجبي.
الجريدة الرسمية