المرأة ليست جسدًا فقط
لا أحب اللف والدوران، وأحزن كثيراً – وأضحك بمرارة أيضاً – عندما أرصد في أوقات الخطر والأزمات والفواجع الاجتماعية، محاولات للتعمية وتغييب الوعي، ويزداد ضحكي المر، عندما أجد استجابة لهذه التعمية لدى عموم الشعب المصري، وأشد تعمية ترتكب على الشعب المصري – منذ زمن - تلك الخاصة بـ«التحرش»، وكأننا لا نعرف حقيقة الأمر، أو كأننا لا نريد أن نعرف.
ما أسهل مقولة: (على الدولة أن تتخذ آليات وتدابير تحد وتواجه «التحرش»)، ما أسهل أن نقول: (حتى الآن القانون لا يضع تعريفاً واضحاً مانعاً للتحرش)، وذلك تقريباً هو كلام غالبية من يتحدثون في هذا الموضوع، ونتيجة لهذا الضغط فإن رد الفعل المتوقع تماماً هو الذي حدث في اجتماع مجلس الوزراء الأخير لبحث ومواجهة «التحرش»؛ لينتج عنه بيان يطالب الداخلية بمزيد من الجهد والرقابة والمتابعة والضبط الميداني والاهتمام بجرائم التحرش، مع إشارة على استحياء لدور التعليم، ولأول مرة لن نجد أحدًا يقول: الحل الأمني وحده لا يكفي، لن نجد أحدًا يقول: واجهوا الأمر ثقافياً واجتماعياً ودينياً، وإنما غالباً سنجد اليوم إدانة موسعة من المراكز الحقوقية وحركات المرأة لهذه القرارات باعتبارها وحدها غير كافية، دون أية كلمة إضافية.
أيها السيدات والسادة وشعب مصر العظيم، إننا جميعاً نعلم أن سبب زيادة التحرش وعدم النظر للمرأة على أنها صاحبة عرض يجب أن يُحترم، هو خطاب «ديني – إعلامي - ثقافي» على حد سواء، بدأ يتغلغل منذ التسعينيات واستفحل الآن، وهذا الخطاب يكرس لفكرة أن المرأة جسد، حتى إنني اعتقد أنه أَثَّر على المرأة نفسها، فسيان بين من يُعري المرأة في الإعلانات والمسلسلات وتقديم برامج التوك شو، والأفلام، والمسرحيات وحتى في فن الرقص عندما يستجلب جنسيات غير مصرية أكثر فتنة لكي يعريها ويركز على الجسد فقط، سيان بين من يفعل ذلك، وبين من يكبت المرأة، ويحاول أن يظهرها بمظهر الخيمة واللا شخصية، ويحلم بعودة ما ملكت أيمانكم، ويشجع إطلاق قناة لا يظهر من مقدميها شيء ولا تتحدث عن شيء، ويحارب الرومانسية والمعاملة الرقيقة لجنس كانت أيضًا من أهم سماته الرقة، وكلا الاتجاهين: الإباحي والمتشدد يكرسان لفكرة مسئولية المرأة نفسها عما تتعرض له من تحرش، رغم أن المسئول الحقيقي هما هذان الطرفان.
لقد تم تشويه نخوة وكرامة وشهامة وخلق ابن البلد المصري، وهو تشويه أثق تماماً أنه مؤقت، وأن الشخصية المصرية والطبيعة المصرية العميقة العريقة ستنفض الغبار عن عيونها وستنقشع غيمة الضباب التي أحاطت بالكثيرين فجعلتهم ينظرون للمرأة على أنها جسد، جسد ليس له أية حقوق، وليس به روح وإنسانية واجبة الاحترام والمراعاة، حتى لو كان هذا الاحترام لامرأة تبدو من جهة نظرنا مُفَرِّطَة أو متشددة في زيّها أو رأيها، وننسى واجبنا في التربية والتقويم وليس الإيذاء والاعتداء.
«التحرش» في مصر نوع من أنواع السادية سببها الحقيقي تكريس عدم النظر لبعضنا البعض على أننا بشر جميعاً لنا حقوقنا الآدمية وواجبنا احترام إنسانية بعضنا مهما كانت أخطاؤنا أو آراؤنا أو اعتراضاتنا، سببها غياب الخطاب الديني الذي تحول منذ أمد لخطاب سياسي وتناسى دوره التربوي التوعوي التقويمي ليركز على الاحتشاد للتأييد أو الرفض وليس للعبادة والتهذيب الخلقي، سببه فن هابط يقيم المرأة بفتنتها وإثارتها وليس بموهبتها وإبداعيتها، سببه إعلام يسطح ويتفه الوعي ويحدث خللاً في إدراك الواقع لدى الجمهور. هل عرفتم الآن من أين يجب أن نبدأ معالجة الظاهرة؟.