رئيس التحرير
عصام كامل

بعد عامين على الثورة.. ليبيا تغازل الاستقرار على محك اللهب.. السلطات تغلق باب التنبؤات بإمكانية حدوث ما يعكر صفو الاحتفال.. والميليشيات المسلحة تسيطر على معظم أحياء المدن

فيتو

لا تبدو الأمور فى ليبيا بعد عامين على بدء الانتفاضة الشعبية التى أطاحت بالعقيد معمر القذافى، كما غازلت أحلام الليبيين، حيث تحول المشهد إلى صورة تبدو أكثر تعقيدًا تغلفها الضبابية، وينهشها القلق من سيناريوهات المستقبل، رغم محاولات خجولة من الحكام الجدد لفرض نمط يلامس الاستقرار ظاهريًّا.


وتحسبًا لتعقيدات المشهد وغموض الموقف قرر القائمون على أمر الليبيين إغلاق باب التنبؤات بإمكانية حدوث ما يعكر صفو الاحتفال بالذكرى الثانية للانتفاضة التى بدأت فعليًّا يوم 17 فبراير عام 2011 على قاعدة درء المخاطر، وهو ما جعل ليبيا تتحول إلى ثكنة عسكرية معزولة عن محيطها العربى والدولى .

وعلى الرغم من كمون المخاطر بالداخل متمثلة فى فوضى انتشار السلاح، واتساع نفوذ الميليشيات، أو ما يعرف فى ليبيا بالكتائب التى تضم مقاتلين ينتمون لمناطق حملت السلاح فى وجه كتائب القذافى، إلا أن القرار الليبى الرسمى رأى أن المخاطر الخارجية لا تقل خطرًا عن الداخلية، وهو ما أدى إلى تغليب رأى الإغلاق الشامل للحدود من الشرق مع مصر، والغرب مع تونس والجزائر، والجنوب مع تشاد والنيجر.

وفيما أصبحت جميع المحافظات الجنوبية منطقة عسكرية مغلقة بالتوازى مع توقف شبه كامل لحركة الطيران، انتقلت حمى القلق من القادم الأسوأ إلى الدول الغربية التى أَجْلَت جميع رعاياها من مدينة بنغازى، وأغلقت قنصلياتها فى إجراءات احتياطية تجنبًا لتكرار الهجوم الذى استهدف القنصلية الأمريكية وأدى إلى مقتل السفير وثلاثة دبلوماسيين آخرين خلال العام الماضى .

وتشير التقارير إلى تضخم التحديات التى تخلقها ظاهرة حكم الميليشيات فى ليبيا، والتى ظهرت سيطرتها فى مرحلة مع بعد الثورة على القذافى ومقتله فى العام 2011، وذلك رغم وجود مظاهر "الدولة" فى ليبيا، لكنها قاصرة عن فرض سلطتها.

وتؤكد الوقائع على الأرض أن الميليشيات المسلحة تسيطر على معظم أحياء المدن، وتقيم الحواجز فى مداخلها، بينما ينتشر السلاح فى أيدى الجميع، وتزداد خطورته عندما يكون بحوزة الشبان المراهقين، ولذلك فضل السكان الانطواء فى منازلهم بعد غروب الشمس إيثارًا للسلامة.

فيما تبدو مدن مصراتة وسرت وبنى وليد شواهد على مأساة ليبيا ما بعد القذافى فى ظل عدم قدرة الحكام الجدد على فرض هيبة الدولة، فـ"سرت" باتت مدينة مستقلة، وكتائب الزنتان أقامت دولتها فى جبال نفوسة جنوب غرب العاصمة، ومدينتا "سرت" و"بنى وليد" كومتان من الركام والخراب .

وإذا كان مقتل السفير الأمريكى وثلاثة من عناصر السفارة فى بنغازى، جاء نتيجة الغضب الذى تأجج فى الدول الإسلامية عقب ظهور الفيلم المسىء للإسلام، إلا أن ما يجرى فى مالى المجاورة والذى تعتبره جماعات التطرف الدينى اعتداء على الإسلام والمسلمين يثير الكثير من المخاوف من إقدام الجماعات الجهادية المسيطرة على الأمن على أعمال انتقامية كرد على الهجوم الفرنسى على مالى.

ويبدو أن الحكومة الليبية ما زالت عاجزة عن توفير الحد الأساسى من الأمن؛ لأنها تنافس مجموعة من الميليشيات والمجموعات المسلحة الأخرى التى تتصرف خارج المحاسبة، وتلجأ إلى العنف بشكل روتينى .

وتشير التقارير إلى أن هذه الميليشيات بعضها ينسب إلى مدن محددة، وأخرى إلى قبائل، وما زال بعضها يحمل مفاهيم إسلامية مثيرة للجدل، أو تهتم بشئون جمهور خاص من القبائل، أو المجموعات الإثنية، برزت خلال الصراع مع القتال ضد جيش القذافى، وهى اليوم لا تأتمر بأمر أى سلطة، وتحافظ على قادتها، وتعتقد أن لها حقًّا مستمرًّا فى الوجود وفى التصرف بشكل مستقل، نظرًا إلى التضحيات التى قدمتها خلال الحرب ضد القذافى .

كما أن الحكام الجدد عندما يحاولون التصدى للمهاجمين، سواء فى أحداث جسام مثل مقتل السفير الأمريكى أو الاعتداء على مناطق ومؤسسات الدولة، فإنهم يضطرون إلى الالتجاء لميليشيات أخرى، مما يعطى فكرة عن حالة القوى الأمنية الليبية، وهو ما يفسر تقنين وجود تلك الميليشيات كتنظيمات عسكرية موازية تدعم السلطة الرسمية وتعضد قوى الشرطة والجيش .

وليس ثمة شك فى أنه كلما اعتمدت الحكومة الرسمية على عضلات الميليشيات المسلحة بدت أقل هيبة واحترامًا فى نظر مواطنيها بصفتها الضامنة للنظام العام، وكلما ظهرت الحكومة أضعف بسبب اعتمادها على الميليشيات تآكلت شرعيتها وأصبحت أقل قدرة على التحرك ضدها، وكلما كانت إرادتها وقدرتها أضعف فى منع الميليشيات ونزع سلاحها.

وزادت جرأة الأخيرة وزاد ميلها نحو التصرف خارج أُطُر الدولة الرسمية، وعلى الرغم من محاولة حكام ليبيا الجديدة الوصول إلى نقطة انطلاق حقيقية لبناء الدولة، بدا الأمر يشبه "مغازلة الاستقرار"، دون الوصول إليه، والسبب فى ذلك أن السلطات الجديدة وجدت نفسها على الفور أمام مطالب اجتماعية تحول دون تطبيق إستراتيجيات اقتصادية أو أمنية على المدى المتوسط أو الطويل.

فيما يعانى البرلمان المختلط الذى انبثق عن الانتخابات الأخيرة من صعوبات فى إحراز تقدم فى ملفات على غرار المصالحة الوطنية وتأسيس عدالة انتقالية، وصياغة دستور لتحديد صورة المستقبل السياسى للبلاد، وذلك بسبب الإرث الثقيل للقذافى الذى يتمثل فى بلاد بلا مؤسسات، وتهميش للجيش والشرطة، ناهيك عن عرقلة أنصار النظام السابق لعملية التحول الديمقراطى فى البلاد .
وتبدو ليبيا الآن فى حاجة ماسة إلى بناء الدولة الحقيقية القائمة على المواطنة والخطط الإستراتيجية التى تشتمل على إجراءات ضرورية قصيرة إلى متوسطة المدى لتطوير مؤسسات دولة فاعلة وفعالة يمكنها حكم البلاد على نحو سليم.

وبما أن الظرف الليبى يختلف كثيرا عن ظروف باقى دول الربيع العربى من حيث التاريخ والجغرافيا والعلاقات الاجتماعية والمناطقية التى أفرزها نظام القذافى القمعى، فإن المرحلة القادمة تتطلب أن تطور ليبيا نسقا قابلًا للحياة يربط بين مكونات المجتمع والمؤسسات، ويتيح حدًّا فاصلًا بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية ضمن قواعد اللعبة التى أنتجتها الثورة، والتى لا يمكن أن تستمر بشكلها الحالى فى ظل وجود دولة ودولة موازية تتمثل فى المجموعات المسلحة والقبلية .

ويفرض هذا التصور ضرورة أن تنخرط ليبيا فى عملية بعيدة المدى لبناء الثقة والشرعية، والإجماع الذى يولى الأهمية لمؤسسات الدولة، ويخلق فضاء من الوحدة الوطنية التى يمكن أن تزدهر البلاد فى إطارها، ويبعد شبح الحرب المناطقية من خلال المساواة بين كل المكونات، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وتعويض من جرى إقصاؤهم أو تهميشهم خلال حكم القذافى .

وإذا كانت ليبيا تقف الآن على محك اللهب فى نوبة مغازلة لاستقرار أمنى هش قابل للانفجار فى أى لحظة، فيجب أن يتركز الاهتمام الآن خلال عملية الانتقال السياسى والاقتصادى إلى حكم القانون، والشفافية، والمساءلة بعد تقنين دور المجموعات المسلحة وتقليص امتيازاتها، وإنهاء الامتيازات غير القانونية التى يتمتع بها أشخاص بعينهم لمجرد تواجدهم فى موقع المسئولية التى يرونها غنيمة حرب.

ويبقى نمط إدارة علاقات ليبيا الخارجية سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا نموذجًا تفرضه قدرة الليبيين على الانتقال من مرحلة "مغازلة الاستقرار" إلى مرحلة الاستقرار الحقيقى الذى يتيح بناء الدولة الحقيقية، ومن ثم الانطلاق فى بناء منظومة علاقات متوازنة مع دول الجوار العربى والأفريقى والمجتمع الدولى .

الجريدة الرسمية