كلام لابد منه
لن تقوم لنا قائمة دون تقوية الأحزاب، وذلك بإتاحة الفرصة أمامها؛ لتكون كيانات مهمة تتصارع من أجل الوطن، وليس من أجل كسب ود الأجهزة الأمنية التي عاثت في الأرض فسادا.
من أراد أن يكون ضميرا لوطنه لابد أن يفتح هذا الملف؛ فإذا كان الشعب المصري قد اختار رئيس الضرورة؛ فإن المستقبل يفرض علينا حتمية الاختيار الديمقراطى؛ لتكون مصر كما كانت دوما قلعة حضارية مؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي، وإذا كان الدرب الديمقراطى هو طريقنا الذي لابد منه؛ فإن فتح ملف الأحزاب السياسية هو بداية الطريق القويم؛ ولكي ننتقل من حارة المعارضة الفردية التي طفت على السطح، إلى معارضة أفكار بناءة وكيانات وطنية تضع مصر فوق كل شىء قبل التمويل وقبل التواصل مع دول لا تريد لنا خيرا، لابد من فتح الباب على مصراعيه لنكون أو لا نكون.
وقد شاء مصيري منذ بدايات عملي الصحفى أن اشتغلت بصحيفة الأحرار لسان حال حزب الأحرار أحد أقدم ثلاثة أحزاب في التجربة التعددية الثانية، وتنقلت بين مكاتبها من الأرشيف وحتى رئاسة التحرير، ورأيت كيف تدار اللعبة الحزبية في مصر، وشاهدت بأم عينى كيف كانت بالفعل لعبة رخيصة أودت بنظام عتيد؛ لأن يصبح هشا ضعيفا مترددا، يلجأ إلى اللعب بأوراق متطرفة أوصلتنا إلى ما نحن عليه.
وحسب تجربتي أرى أنه لن تقوم لنا قائمة دون تقوية الأحزاب، وذلك بإتاحة الفرصة أمامها؛ لتكون كيانات مهمة تتصارع من أجل الوطن، وليس من أجل كسب ود الأجهزة الأمنية التي عاثت في الأرض فسادا، ومن أجل ذلك لابد أن نعود إلى الوراء قليلا.
عاشت مصر تجربة التنظيم الواحد في العهد الناصري، ورغم مشروعية ووطنية الطرح الناصري، وما أحدثه من تطور هائل في محيطه، إلا أن ملف الحريات ظل هو القنبلة المفخخة التي انتقصت من هذا المشروع العظيم، وظلت الحرية هي الجرح الغائر في جسد الوطن الذي أنهكته تجربة التنظيم الواحد، وعندما أراد السادات أن يحرك المياه الراكدة.. قرر إنشاء المنابر الثلاثة عام ١٩٧٧م، والتي تحولت فيما بعد إلى أحزاب (الأحرار، والتجمع، ومصر) وكتب على هذه التجربة أولى مآسيها، حيث ولدت المعارضة من رحم النظام، ولم تولد بشكل طبيعى من رحم الشارع؛ فكان ميلادها مرتبطا منذ البداية ببوصلة النظام.
وقد ظهر ذلك جليا عندما قرر حزب الأحرار إصدار أول صحيفة معارضة، واختار لرئاسة تحريرها الراحل العظيم جلال الدين الحمامصى، وما أن وضع الحمامصى يده بعمق في التجربة حتى طالته يد التهديد؛ فقرر الخروج الآمن من التجربة مرشحا الشاب صلاح قبضايا ابن أخبار اليوم.. بدأ صلاح تجربته بوعي المتعامل مع سلطة غاشمة، فأنشأ صحيفة معبرة عن المعارضة المصرية، فباتت لسان حال الأحرار والوفد الذي كان في طى العزل السياسي، وكتب فيها الناصريون، والشيوعيون، وأصبحت بين يوم وليلة شوكة في ظهر النظام.
على الفور قرر الرئيس السادات التخلص من صلاح قبضايا، وكان له ما أراد عندما قرر الراحل العظيم مصطفى كامل مراد فصل قبضايا، وتعيين محمد الغلبان، وبدأ الصراع بين معارضة تريد أن تبقى على أبسط مؤهلات الحياة، وشيئا فشيئًا اختارت المعارضة اللعب في ظل النظام، حتى جاء مبارك رئيسا عقب حادث اغتيال مفزع، وتصور البعض أن مبارك سيبدأ عهده بحرب ضروس ضد تيارات التأسلم السياسي، وعلى الجانب الآخر لابد وأن يقوي المعارضة الوطنية باعتبارها إكسير الحياة السياسية، غير أن ذلك لم يحدث.
قرر مبارك منذ البداية فرض قواعد اللعبة الجديدة، والتي اعتمدت في الأساس على اغتيال المعارضة بتهميشها وتشويهها واللعب من تحت الطاولة مع الإخوان المسلمين، ظنا منه أن ذلك يمنحه شرعية الحاكم المحارب للعنف الدينى، وفي ذات الوقت المتسامح مع تيارات أقل عنفا.
ولكي نكون صادقين مع أنفسنا لابد أن نتحدث عن الدور السلبى الذي لعبه جهاز أمن الدولة بممارسات اتسمت بالتدخل المقيت في الأحزاب السياسية، وخلق صراعات داخلية بها، والوصول في النهاية إلى إدارتها بشكل مباشر، فكان أصغر ضباط هذا الجهاز كفيلا بخلق معركة انفصالية داخل أعرق الأحزاب، بعد أن أنهكوا تنظيماتها، وتمكنوا من خلق صورة ذهنية سيئة عن المعارضة المصرية، فأصبحت مادة للسخرية.
في ذات الوقت كانت تلك الأجهزة تدعم جماعة الإخوان بشكل مباشر وغير مباشر، عندما حالت بين الشباب وحقوقهم السياسية برفع شعار «لا سياسة في الجامعة».. وقامت بضرب الأحزاب السياسية في الجامعات، وتمددت جماعة الإخوان بشكل لم يسبق له مثيل، حتى أصبح عصر مبارك هو عصر بناء الجماعة، التي كانت قد انهارت مع نهايات عصر عبد الناصر.. تحولت المعارضة إلى شكل من أشكال البروتوكول وصورة كرتونية لأبجديات الممارسة الديمقراطية، وتغول مرة أخرى التنظيم الواحد.. التنظيم الذي ثبت أنه أكثر كرتونية من غيره، حيث نال الحزب الوطني بعض أمراض الأحزاب، وتحول إلى تجمع للمصالح لا يعبر عن رؤية وطنية حقيقية.
ولأن المعارضة حوربت واعتقلت في مقراتها؛ فإن ذلك أنهك حزب النظام، وشهدت مصر مسرحية هزلية للحياة السياسية، وسط غبطة النظام بذلك، دون أن يدري أنه سيردد يوما من الأيام «أُكلت يوم أُكلت المعارضة» وجاء اليوم الموعود عندما كان البناء ينهار، بينما يفتش مبارك في آخر لحظاته قبل الاحتضار عن منقذ؛ فطالب بحوار وطني أقامه دون إرادة حقيقية، حتى بات نكتة سخيفة يضحك منها المعارضون قبل المؤيدين.
كنت واحدا من رؤساء تحرير الصحف، عندما دعانا الراحل الوطني المخلص اللواء عمر سليمان عقب فورة الشعب المصري في الخامس والعشرين من يناير، وفي ذات الوقت كان قد جمع المعارضة كلها أحزابا وجماعات، ولا أنسى عندما أتيحت لى فرصة الانتحاء به جانبا، عندما قلت له: يا فندم أنتم تجلسون مع الناس "الخطأ" حيث لا يستطيع واحد من كل هؤلاء أن يجمع لك عشرة مواطنين، وكان كعادته عندما يقول نعم فإنما يقصد لا.. لم أفهم هل كان الرجل يدرك ذلك جيدا، ويقوم بدور هو أكثر الناس علما بتفاصيله أم لا؟!
ودارت الأيام دورتها، وأدرك القاصي والدانى أن مصر لا يمكن أن تقوم لها قائمة دون كيانات وطنية تحميها من الاختراق، الذي طال كل جنبات حياتنا؛ لدرجة أصبح معها لقطر صوت، ولتركيا صوت، ولأمريكا ألف صوت، وللغرب آلاف الأصوات، ولم تعد لدينا القدرة على التفريق بين الغث والسمين، ودفعنا الثمن غاليا، ولانزال ندفع.. وسوف ندفع إذا لم ننتبه إلى خطورة تهميش الحياة الحزبية.
إن أقوى وأعتى الأنظمة السياسية في العالم هي تلك الأنظمة التي تتمتع بمعارضة قوية، تتداول السلطة فيما بينها، في مباراة شريفة تعلى قيمة الوطن، وتثمن مشاركة المواطن في تحمل مسئولياته تجاه بلاده، قبل أن تدفعه دفعا إلى الانسحاب والانزواء في زوايا السلبية والتهميش والإقصاء.
رضينا أم أبينا فإن تنظيم الإخوان هو الأقوى، لأن الدولة سمحت بقيام دولة موازية تمنح أفرادها وظائف ومشروعات وأموالا وأملا في الحياة، دون أن تقوم هي بدورها في دعم الروابط والثوابت الوطنية؛ فالوطن في معناه الحقيقي هو الأمل في حياة كريمة.. هو بيت يأوى المواطن، ولقمة عيش كريمة، ودواء يحميه من ذل العجز، ووليد لا يراه والده عبئا، ولا تنظر إليه الدولة على أنه رقم في الزيادة السكانية.
إن أسوأ جريمة ارتكبها نظام مبارك هي إفساد الحياة السياسية، وتشويه الأحزاب، وأشهد الله أنني رأيت بأم عيني صورا لا يستطيع أديب مهما بلغت موهبته في التخيل أن يصنع مثلها، ورأيت رؤساء أحزاب يهانون، وقيادات تضرب في سمعتها ووطنيتها؛ فتؤثر الانزواء بدلا من المشاركة، رأيت كيف لصول في مباحث أمن الدولة أن يكون صاحب سطوة وسلطة-لم تكن لرؤساء الأحزاب أنفسهم- داخل أحزابهم.
وإذا أردنا حماية أجهزتنا الأمنية من أن تطولها يد العبث مرة أخرى، فإن إعادة هيكلتها يحميها ويحمينا ويحمي البلاد من كوارث لم نعد قادرين على مواجهتها، وقد عشنا صورة لا يجب أن ننساها مهما كان الثمن.