مصر تنتخب رمسيس الرابع!
أيقظنى صوت المضيفة وهو ينساب عبر سماعات الطائرة، محذرا من عدم إحكام حزام المقاعد، حيث ينوي قائدها الهبوط بنا في مطار شرم الشيخ.. كانت قمم جبال الجنوب قد أعادت إلى ذاكرتي سنوات الحب والانتصار دون أن تغوص بي في انكسارات عبرناها، وأخرى لا نزال نعيش سنواتها المُرة.. تلك هي الجبال المقدسة الطاهرة - كما قال عنها رب العالمين-، وتلك هي المساحة المهملة بعد التحرير الأول.. لا تزال تعيش عصرا من احتلال الإهمال والفوضى والفقر والجهل.
شق بنا الأتوبيس المكلف بنقلنا من واحة الصخب السياحى الجميل «شرم الشيخ»، إلى مساحة أكثر نفيا وتهميشا وإقصاءً.. إلى نويبع وطابا كانت وجهتنا.. قمم الجبال تناطح السحاب وتبدو السيارة ضئيلة الحجم، تمضى بين تلك القمم الشاهقة، حيث تأخذك تلك المشاهد إلى جذور التاريخ المصرى التليد عندما مرت من هنا العائلة المقدسة.. ومن هنا صنع المصري القديم تاريخا تليدا، ومن هنا مر صلاح الدين.. وهنا كان طريق الحج القديم، وهنا رفع العلم المصرى شاهقا، خفاقا، مرفرفا بعد مطاردة آخر معاقل الاحتلال البغيض عبر معركة دبلوماسية سبقتها ملاحم الدم والنار منذ فجر التاريخ.. ولم تتوقف إلا بعد انتصار 73 المجيد.
السيد الدمرداش هو من دعانا إلى هنا للتواصل مع أبنائنا في سيناء عبر برنامج أقدم عليه من خلال «جمعية سياحة مصر» التي أنشأها بعد ثورة ٢٥ يناير، مستهدفا تنفيذ برنامج تواصل مجتمعى مع أهلنا في سيناء، الدمرداش- لمن لا يعرف- صحفي مصرى مغامر بطبعه تقوده ظروف الانكسار إلى مغامرة جديدة ينكسر في معظمها دون استسلام حتى يحقق انتصارا بعد انتصار.
كان الدمرداش يعمل صحفيا بجريدة العربى الناصرى، قبل أن تلفظ أنفاسها مثل صحف معارضة أخرى ألقت بآخر طبعاتها معلنة الرحيل، تاركة فراغا كبيرا بعد أن داستها ثورتا ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، وكأن التاريخ قد قرر التخلص من بقايا معارضة تلقت من عصر مبارك ضربات كانت كفيلة بوأد التجربة التعددية الثانية بلا رجعة.. أغلقت العربى أبوابها ومعها انطوى حلم الدمرداش وبعدها أغلق مشروعه «مجلة أخبار السياحة» التي تشاركنا فيها سويا طوال اثنتى عشرة سنة.
لم يلق الدمرداش حبال التواكل على غيره.. تلقى الصدمة تلو الصدمة، وعاد إلى ذاته المغامرة لينشئ «جمعية سياحة مصر»، واستطاع في فترة وجيزة حشد عدد من الوزارات «السياحة.. الثقافة.. البيئة» لتبني برنامج للتواصل المجتمعى مع أهلنا في سيناء.. وصل إلى شعابها الندية.. التقى أهلها المهملين بين جبالها وتلالها مصطحبا فرقا طبية من كبار خبراء الطب وأساتذة الجمال وعددا كبيرا من رجال السياحة المؤمنين بدورهم الاجتماعى.. تواصل مع الأطفال والشيوخ وخلق حالة حوار مع الشباب، فكان جنين مصري خالص من الحب والانسجام هو نتاج العام الأول.
هناك.. وفى الركن البعيد الهادئ.. لا تزال نويبع تشكو إهمالا تجسد في فنادق وقرى لا يسكنها إلا الفراغ.. على شاطئ فندق «الهلنان» تستطيع أن ترى حدودا عربية كثيرة.. هنا جبال المملكة العربية السعودية وهنا الأردن وهنا فلسطين الأبية.. وهنا لا يزال الاحتلال الإسرائيلى جاثما فوق صدور عربية تقاوم دون كلل أو ملل.. وهنا وعلى رمال سيناء الطاهرة تنصت جيدا إلى حكايات أهلنا فلا تجد إلا الصمت في مواجهة الشكوى.. صمت يغلفه العار.. ويحمل من مضامين الانكسار ما يضيع حلاوة النصر.
في المساء سارت بنا السيارات إلى العمق، حيث تلاقينا مع أهلنا في قرية بدوية تعانق مياها تحمل رغبة القفز فوق الرمال والصخور لا تواجهها بنايات شاهقة بل بيوت بدوية بسيطة بحجم الجمال البكر النادر.. جلسنا نتسامر من ذكريات الاحتلال البغيض إلى ذكريات الإهمال الأبغض.. تحدث أهلنا دون تحفظ عن آمالهم وأحلامهم.. أهل الجنوب حملونا أمانة نقل الواقع إلى الرئيس القادم.
وأهل سيناء يعشقون ثرى الوطن، فهم من فصلوا عن وطنهم الأم دون هجرة.. هم من عاشوا لحظات الانكسار دون خوف أو رعب.. لم يتركوا مواقعهم وعاشوا هنا حتى جاءهم المدد.. صمدوا حتى أعلن الجندى المصرى نفض العار ومطاردة كل معتد أثيم.. ناضلوا كما ناضل جيشنا.. عادت سيناء دون أن يحصلوا على حقهم في الوطن.. لا تمليك للأراضي.. لا مشروعات.. لا تعمير.. لا تعليم.. لا.. لا.. وتعددت اللاءات المُرة في حلوقهم حتى سقط الديكتاتور المهمل.
أهل سيناء لا يريدون ناطحات سحاب.. لا يحلمون بنوادي خمس نجوم.. لا يشتاقون إلى بنايات مكيفة.. أهالينا في سيناء يريدون سدودا تحفظ لهم ما تجود به السماء من أمطار تهدر بفعل الإهمال وسدود اللا ضمير.. أهالينا يريدون أن يكونوا جزءًا من وطنهم.. المواطن هنا لكي يصبح مواطنا لابد من بيت يملكه وأرض يزرعها وهوية يرفعها في مواجهة الغربة والاغتراب.. فهل طالبوا بما لا يستطيع أن يحمله وطن لمواطنيه؟
بكرم البدو، استقبلونا.. وبحميمية الأهل ودعونا، وفى الفجر كان الدمرداش يلقي بنا داخل السيارة من أجل العودة إلى حيث كنا من صخب السياسة وجدل العاصمة الغارقة في ملوثات البرامج الفضائية.
في طريق العودة أمسك محمد غريب- رئيس اتحاد المرشدين العرب- بميكروفون الباص ليحكي لنا بصوته العذب قصص الهوى السيناوى منذ فجر الضمير.. كان صوته المنساب يقذف بحمم الوقائع التاريخية، يوقظ فينا إحساسا بوطن يستحق أن نضحى من أجله.. يحكى عن كنوزها.. أسرارها.. مفاتنها، قصص المجد فيها.. ويضعنا غريب أمام ألغاز التاريخ ويتساءل: هل يعيد التاريخ نفسه؟
يقول غريب: كان «سيتى الأول» حاكما مصريا وطنيا عبقريا، ابتني مجدا عظيما.. نهض بالثقافة والفنون والعمارة، وأعاد لمصر دورها العظيم في التاريخ.. مضت السنوات وجاء عبد الناصر ليصنع ذات النموذج.. ابتنى السد العالى بينما كان سيتى الأول صاحب البناء الأكثر خلودا.. ابتنى معبد أبيدوس العظيم.. مضت السنوات وجاء رمسيس الثانى -صاحب أعظم انتصار في التاريخ.. بطل معركة قادش الذي سحق الحيثيين وكان صاحب أول معاهدة سلام في التاريخ، ففاز عن جدارة بلقب بطل الحرب والسلام.. ويأتى الرئيس السادات ليصنع نفس النموذج.. نصرا عظيما في السادس من أكتوبر، صنع به واحدة من أعظم حلقات التاريخ العسكري ثم وقع معاهدة السلام ليستحق ذات اللقب.. بطل الحرب والسلام.
يعيد التاريخ نفسه - هكذا يقول محمد غريب - ويأتى رمسيس الثالث ليحكم مصر ثلاثين عاما.. تراجع دورها في محيطها وتراجع إسهامها الحضارى، وباتت مهددة بسبب ضعفها وهوانها، وعندما أراد توريث ابنه الحكم ثار عليه الشعب ثورة عظيمة وهنا تدخل الجيش داعما شعبه وخلع رمسيس الثالث !!
هل يكون مبارك هو ذات النموذج، حيث تراجع دورنا وأهملت البلاد ولم يعد لها إسهام حضاري إنسانى كما كان طوال تاريخها؟
بعد خلع رمسيس الثالث عاشت البلاد حالة من الفوضى العارمة، تمكن خلالها الكهنة من حكم مصر عن طريق كبير الكهنة.. لم يصبر المصريون على حكم الكهنة رغم دور الكهنوت في تاريخ البلاد.. ثار الشعب المصري ضد حكم الكهنوت.. وهنا تدخل الجيش مساندا ثورة الشعب وعزلوا كبير الكهنة، نفس الصورة التي تكررت مع محمد مرسي وجماعته الذين جاءوا لحكم البلاد بكهنوت جديد، وجاء رمسيس الرابع ليبدأ البناء العظيم ويسلم الراية لرمسيس الخامس الذي أكمل المشوار في واحدة من أبهى لحظات التاريخ بناء وشموخا، فهل نختار رئيسا يعيد إلى الأذهان مجد رمسيس الرابع؟ وهل يسلم الراية لحاكم آخر يعيد ذات المشاهد في عصر رمسيس الخامس؟..
قبل أن تتمنى أخرج الآن وانتظر في الطابور حتى تختار رمسيس الرابع.. مصر تنتخب اليوم رمسيس الرابع!