رئيس التحرير
عصام كامل

الصعيد لا يفيض قشطة وعسلا!!


إذا كنت من الذين تعجبهم مناظر الحقول الخضراء في السينما والدراما، فإنك غالبا من هواة زيارة الحي الريفي في مدينة الإنتاج الإعلامي، وربما كنت من محبي زيارة المتحف الزراعي بالدقي، وأشعر بك وأنت تحلم مع نفسك أحلام اليقظة فتتخيل أنك تنزل في استضافتي في الصعيد لكي تتناول فطورك من (الفطير المشلتت) مع القشطة والعسل، ولا مانع إن كان الغداء بطا أو إوزا، وستقنع بأن يكون العشاء جبنا قريشا مع (ماجور رايب)، هأنا أشعر بحلمك وأصوات معدتك وأفكارك عن الصعيد، وإن جئت ستجد كل ما تحلم به حاضرا، سنوفره لك، لكنك لن تعرف الحقيقة الكامنة وراءه، أو بالأحرى لن تريد أن تعرف.


ستكون الحقول جميلة وأنت تسير فيها، لكنك لن تستطيع أن تتخيل شعور المزارع الذي يجلس في الشمس المسلطة على رأسه منذ البكور حتى الغروب، ستشعر بأن نسيم الجو صاف وأنك تفتح رئتيك للهواء بعيدا عن تلوث العاصمة، لكنك لن تعلم أن الظَهـْــــــرَ المحني من وطأة الفأس لا يشم إلا تراب الحقول الممتزج بمبيدات مسرطنة. 

لن تجهد نفسك في تخيل صعوبة ذلك، ستحاول أن تقتنع بأن العمل في الحقول يعطي الناس الصحة، لكنك لن تعرف كم منهم يعاني تليفا كبديا بسبب (البلهارسيا)، ولن تعرف كم منهم بسبب اختفاء الأسمدة وتبوير الأراضي والإلزام بزراعة القصب المجهد للتربة مستدين ومرهونة أرضه.

لن تعرف أننا ما عدنا نصنع (الفطير المشلتت) في البيوت، فأغلبنا صار يشتريه من مخابز خاصة، ربما نمتاز فقط عن العاصمة أن مخابزنا تعرف سر الصنعة أكثر؛ لذا ستشعر أنه بيتي، لكن الحقيقة أن قرابة الثلثين من أهل الصعيد لم يعد لديه الفرن الطينية البيتية التي كانت تُخْرِج أفضل المخبوزات الصعيدية ذات النكهة الخاصة، ستأكل بطا وإوزا شهيا، لكنك لن تعرف أننا نشتريه من محال مخصوصة، تبيعه مبردا ومكيسا وعليك أن تتناوله قبل 3 أيام، وتأمل ألا تكون الكهرباء قطعت عليه كثيرا حتى لا تصاب بمغص معوي عقب انتهاء الطعام، لكن لا تقلق فسيكون طعمه مختلفا تماما عن ذلك الذي في العاصمة؛ لأن سر التوابل عندنا، ما زلنا نزرع الريحان وبعض الخضرة التي تعطي طعما خاصا في أفنيتنا الخلفية؛ بيد أنه ما عادت تقريبا سوى المزارع المتخصصة هي التي تقتني البط والإوز، فنسبة من يقومون بتربيته في منازلهم الآن قليلة جدا.

قد تنتظر أن ترى (الجبن القديم) وهو يخرج من (علاوة المش) أمام عينيك، لكنك ستُدهَش عندما تعلم أن مصانع الجبن تشتريه وتجفف المنابع القليلة أساسا؛ لكي تعيد بيعه من جديد مطبوخا ومزادا بمواد لا نعرف عنها شيئا في علب من البلاستيك، وعبوات من الفلين الصناعي، لكنه خال تماما من أي (دود)، ومنه نكهات كثيرة ما كنا نعرفها من قبل كنكهة الزيتون والبارميزان وغيرها، ستُــقنعُ نفسك بأن الجالسين في الطرقات من الشباب يجلسون ليردوا التحية على القادم والآتي، وأنهم يحمون الطريق ويمنعون تجاوزات من يجرؤ ويفكر في مغازلة أي فتاة أو سيدة، لكن الحقيقة أنهم في جلستهم يندبون حظهم ألف مرة لبعدهم عن أية منافذ للعمل المتاح في مكان مثل العاصمة؛ ليصبح حلم اليقظة لكثيرين منهم السفر لأي دولة عملتها تقدر بأي رقم أكثر من الجنيه المصري.

ربما مشكلتنا الوحيدة أننا كرماء جدا مع ضيوفنا، لدرجة أننا لا نريد أن نزعجهم بمشكلاتنا، ولا نريد أن نحملهم بهمومنا، لتستمر صورة الصعيدي الطيب لحد السذاجة، الذي تفيض من تحت قدميه أنهار القشطة والعسل ومن حوله البط والإوز مشمر ومحمر، وأمامه حدائق غناء من حقول خضراء هي المسيطرة على أذهان الكثيرين.

أظنكم لا تمانعون بعد قراءة هذا المقال أن تعتبروا أنفسكم من أصحاب الدار ولا تكونوا ضيوفا على صورة ذهنية مصنوعة غير حقيقية!
الجريدة الرسمية