استطلاع أم توجيه للرأي العام؟!
دق جرس الهاتف الأرضي، فتناولت السماعة، جاءني صوت نسائي منمق يخبرني بأنها تجري استطلاعا للرأي عن الانتخابات القادمة، فلاحظت أنها أخفت اسم المؤسسة التي تنتمي إليها، طالبتها بتوضيحها فقالت إنها تفضل عدم ذكر المؤسسة حتى لا يؤثر ذلك على رأي المستهدف! ارتبت قليلا لكنني وافقت على اشتراكي في استطلاع الرأي، انهالت علي بأسئلة شعرت أنها غير مرتبة جيدا، وأنها تأتي بها من ذاكرتها وليس من ورقة معدة، إلا أنها بعدما سألتني عن مشاركتي في الانتخابات القادمة، راحت تسألني سؤالا أعادته علي عدة مرات: هل أنت مع أو ضد ثورة 25 يناير؟ أجبتها أنني معها وأرى أن 30 يونيو هي إكمال الطريق لـ 25 يناير، راحت تعيد علي السؤال أكثر من مرة، قلت لها: هذا ليس استطلاعا وإنما توجيه للرأي، فأغلقت في وجهي الهاتف.
رحت بعدها أفكر، ما الضوابط التي نملكها حول استطلاعات الرأي في مصر؟ لا شك أن استطلاعات الرأي هي أحد أهم روافد العملية الديمقراطية، فهي مؤشر يجب أن يضعه صانع القرار باهتمام في حسبانه، لكنها الآن عملية لها أسسها وأصولها العلمية التي تجعل هذه الاستطلاعات حقيقية وصادقة، فبدءا من إعداد أسئلة الاستطلاع، ثم تحديد طريقة الجمع ما بين الاستمارة أو الاستبيان أو الهاتف أو المقابلات الميدانية، مرورا بتوزيع الدرجات، وعمل المعادلات اللازمة لبيان هامش الخطأ وتصحيح عامل التخمين، ثم الخروج من كل هذا بنتائج محددة، فضلا عن نوعية فريق العمل وعلاقته بطبيعة الموضوع محل الاستطلاع، كل هذه الأمور لاحظت أنها لا يتم التعريف بها أو نشرها أو تحديدها بشكل متكامل حتى في مركز استطلاع الرأي العام التابع لمجلس الوزراء.
القانون المصري لا يسمح بإجراء استطلاعات الرأي إلا بعد أخذ تصريحات جهات مسئولة على رأسها الجهاز المركزي للتنظيم والاحصاء، والجهات الأمنية، بينما يتفلت من القانون – في حدود علمي – استطلاعات الرأي عبر الهاتف، والاستطلاعات الإلكترونية على مواقع الصحف، ورغم أن هذه الاستطلاعات يمكن أن تلعب دورا مهما ليس في قياس الرأي العام فحسب، وإنما في توجيه الرأي العام أيضا، إلا أنه واضح أننا لن نصل بعد لمستوى معقول من ضبط فوضى استطلاعات الرأي التي تعلن جهات عدة في كل لحظة نتائج لها بنسب مئوية وتستعين بها بعض وسائل الإعلام وكأنها حقيقة مؤكدة مطلقة عن واقع الشعب المصري، فلا عجب إذن أن يكون الواقع المصري واختيارات المصريين في الكثير من الأمور بعيدة عن تلك النتائج، مما يعني فعليا أن صانع القرار مفتقد بشدة لضوء مهم ينير له الطريق، وحتى في الحوارات المجتمعية التي يتم عقدها حول أي صياغات قانونية أو قرارات للدولة فإنها لقاءات مع النخبة في النهاية، وقد لا تكون صادقة في نقل نبض الشارع.
لو أخذت في الحسبان نسبة الأمية في الشعب المصري، وضعف الخبرة الثقافية وآليات التعامل مع الاستبيانات والإحصاءات والاستطلاعات، فستكتشف أننا بحاجة للعمل في اتجاهين، الأول اتجاه تنمية وتقنين وتدعيم جهات إجراء استطلاع الرأي والتأكد من مصداقيتها وحيادها، وفي الوقت نفسه، على الدولة أن تعمل مع المواطنين، على تنميتهم وتدعيم ثقافتهم، وتوصيل طبيعة وحقيقة استطلاعات الرأي وسبلها لهم، حتى يستطيع المواطن البسيط أن يكون أمينا وصادقا في تقديمه لرأيه من ناحية، وحتى يفرق بين استطلاع الرأي، وتوجيه الرأي من ناحية أخرى، حتى لا نفاجأ في كل لحظة باستطلاع للرأي يفرض رقما ما على أنه حقيقة مؤكدة مخالفا به لما في الواقع المصري.