"النكتة".. سلاح المهمشين في وجه "السلطة وأصحابها"
"النكتة سلطة.. لمواجهة السلطة".. هتاف الصامتين ومؤشر الغاضبين.. مما استطاع أحد الوقوف أمامها، لم تفلح كل محاولات اغتيالها، الكبار أرشدوا عنها، أطلقوا عليها "كلاب السلطة".. لم يزدها النباح إلا قوة فوق قوتها.. قالت: "وما خشيت ذهب المعز.. أو سيفه".. ناطحت أكبر رأس في الدولة، وأنصفت أصغر "صعلوك" فيها.."عبد الناصر" غضب منها كثيرًا.. "السادات" واجهها بشعار "وداوني بالتي كانت هي الداء".. أما "مبارك" و"مرسي" فكانا صيدًا سهلًا لها.. وقبل أن يسدل الستار بقيت شامخة على خشبة المسرح والباقون تراجعوا لـ"الكواليس".
"النُّكْتَةُ..هي الفكرةُ اللطيفة المؤثِّرَة في النفس".. هكذا تم تعريف النكتة في "المعجم الوسيط"، غير أن عملية "تأريخ النكتة" على مر العصور، تكشف -بما لا يدع مجالًا للشك- أنها لن تظل دائمًا في خانة "الفكرة اللطيفة"، لكنها تمردت على "اللطافة" لتتحول -ما بين طرفة عين وانتباهتها- لـ"سلاح الغلابة" والمهمشين في وجه الحكام، ولم يستطع واحد منهم أن ينجو منها، جميعهم دخلوا سجنها، مارست عليهم كل صنوف العذاب -بما لا يخالف شرع الضحك- أذاقتهم مرارة القهر، دون أن يذرفوا دمعة، دسوا عليها "المرشدين" فكشفتهم من الوهلة الأولى، ومنحتهم "صك الغفران"، وأرسلت معهم هدايا لـ"من أرسلوهم"، وكانت هي "الباقية".
الكاتب الصحفي عادل حمودة، قال عن "النكتة" في مقدمة كتابه "النكتة السياسية.. كيف يسخر المصريون من حكامهم؟": طائر أخضر جميل.. يسكن القلب.. ينعش الشفاة.. ينشط أيامنا الرتيبة المتشابهة كأوراق الشجر، وحبات الأرز، وشعب الصين.. ويدغدغ صدورنا الحزينة، فتهتز طربًا، وكأنها صالة "ديسكو"، لكنه طائر غريب الأطوار ينقلب فجأة إلى صقر جارح.. شرس.. لا يفهم في أصول "البروتوكول".. ولا في آداب الحديث.. يطير من حلوقنا إلى القمم العالية لينقر الأصابع، والجفون، ومقاعد السلطة، وفراشها، وثيابها الداخلية.. وينقر أيضًا أعمدة الحكم، والقهر، والفقر، والظلم، والإرهاب، والكبت، والقسوة، والاعتقال، والتعذيب، والتلفيق، والتصنت، وتقارير الأمن، والذين يحكمون بالحديد والنار، وقنوات التليفزيون، والذين يحولون الشعوب إلى باكو "لبان"، أو مكعب "شوربة" جافة، أو بقايا سيجارة "كينج سايز".
وخلص "حمودة" إلى أن مصر أقدم مجتمع عرف النكتة السياسية، وتوافرت فيه شروطها، مجتمع مقهور حضارته عريقة، لا يتمتع بحريات التعبير وليس لأبنائه فرصة ولا مصلحة للمشاركة في الحكم، ويرون أن البعد عن السلطة غنيمة والاقتراب منها احتراق، وكسر هيبتها في نفوسهم بالنكت حماية للذات.
وقال الكاتب الصحفى مصطفى أمين لـ"حمودة" إن النكتة السياسية كانت وستظل وسيلة الشعب للتعبير عندما لا تكون هناك ديمقراطية، وأضاف أن النكتة السياسية للمصريين هي صحيفة المعارضة واسعة الانتشار، أي أنها تنتشر رغم القوانين التي تحاصر قيام أحزاب جديدة، وتقيد المعارضة وتمنع إصدار صحف مستقلة.
أما الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ على الاجتماع السياسي، فقال للكاتب، إن النكتة السياسية هي تعبير عن قصور في البناء الديمقراطي وهى وسيلة لتوصيل صوت الشعب إلى الحاكم ولو وجدت الديمقراطية فسوف تختفى النكتة السياسية الموجهة ضد الحاكم الطاغية أو ضد الحاكم الفرعون، لكن ستظل الناس تعبر عن نفسها بالنكتة في مجالات أخرى.
الكاتب الساخر على سالم قال ذات مرة: أنا أكتب أدبا ساخرا، ولكنني لا أستطيع كتابة نكتة، وأكاد أجزم أن أحدًا لا يعرف كيف تكتب النكتة أصلًا، ولا أحد يعرف من أين تأتي، وإن كان البعض قد وضع تصورات لكيفية تطورها وانتقالها، أو كيفية ترجمتها من لغة إلى أخرى".
وفي مقال له عن "النكتة" قال رئيس قطاع الأخبار السابق عبد اللطيف المناوي: بلغت درجة تقديس القدماء المصريين للنكتة أنهم جعلوا لها إلهًا وزوجوها لإله الحكمة، وهذا هو بالضبط التفسير الأقرب إلى ارتباط النكتة لدى المصريين بالتعبير عن موقفهم من الحياة بكل تفاصيلها، وإذا تراجعت النكتة في المجتمع المصرى وسادت روح الاكتئاب، فإن هذه علامة خطيرة على أن الأزمة كبيرة، مثل هذه الأجواء كانت قد سيطرت على مصر في الأشهر الأخيرة لحكم الإخوان، عندما أصيب المصريون جميعًا، عدا قلة، بحالة حادة من الاكتئاب كان يمكن أن نلمسها بين المصريين داخل مصر وخارجها.
وأكمل "المناوي" بقوله: الضحكة على وجه المصرى الأصيل تبدو كأنها محفورة، عمرها من عمر بدء حضارتهم، الضحكة على الوجه تخفى خلفها تفاصيل حياة بشقائها وحلوها ومرها، وقد استخدم المصريون منذ القدم سلاح الضحكة والنكتة في مواجهة كل الصعوبات الحياتية، خاصة الاقتصادية والسياسية.
مصر رغم غناها البشرى والثروة الطبيعية لم تعش كثيرًا في حالة يسر اقتصادى، بل واجه أهلها أو قطاع كبير منهم صعوبات اقتصادية، وفى مجال السياسة فإن علاقة شديدة الخصوصية والتعقيد ربطت المصرى بالسلطة السياسية، هذه العلاقة دفعت المصرى إلى أن يبحث عن وسائل مختلفة يعبر بها عن مواقفه التي لا يأمن أن يعبر عنها بوضوح وصراحة، كما هو يقاوم ظرفه الاقتصادى الصعب بالضحك عليه واختلاف النكات عن صعوبات حياته.
وأوضح بقوله: نظريات علمية حاولت تفسير ظاهرة النكتة، إحداها تعتبرها فرعونية الأصل، فيقال إن المصريين القدماء اعتقدوا أن العالم خلق من الضحك، فحين أراد الإله الأكبر أن يخلق الدنيا أطلق ضحكة قوية فظهرت السماوات السبع، وضحكة أخرى فكان النور، والثالثة أوجدت الماء إلى أن وصلنا إلى الأخيرة خلق الروح، وظهرت في البرديات رسوم كاريكاتيرية وعلى قطع الفخار أيضًا تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية احتفظت بها متاحف العالم، واستخدم المصرى القديم الحيوانات للسخرية من خصومه السياسيين.
وأوضح أنه عندما جاء الاحتلال العثمانى لمصر كانت السمة الغالبة عليهم الغطرسة والتوتر، وما ميز أشكالهم الكروش الكبيرة التي وضعت عليهم مسحة من الكسل وضيق العقل، فسخر المصريون من (نفختهم الكاذبة).
فيقول الجبرتى في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار": لقد نكت المصريون على الباشا التركى وحولوه إلى أغنية لحنوها ورددوها «يا باشا يا عين القملة مين قال لك تعمل دى العملة ويا باشا يا عين الصيرة مين قال لك تدبر دى التدبيرة»، وجاء ذلك كرد فعل على قسوة الأتراك وتعاملهم الفظ مع المصريين كعبيد.
وقال أيضًا: أطلق المصريون "قفشاتهم" اللاذعة التي نالت من المحتل الفرنسى والتي كانت تنال من خلاعة ومجون جنود الاحتلال، فانزعج نابليون بونابرت من سخرية المصريين فأمر أتباعه بإلقاء القبض على من يطلق النكات على الفرنسيين، لتكون النكتة لأول مرة في التاريخ جريمة يعاقب من يرتكبها بالقتل أو الضرب.
أما الأكاديميون فيقولون عن "النكتة" أنها: نص إبداعي سردي قائم بذاته لكنه بتركيبة أدبية لا تشبهها تركيبة أخرى من حيث الكثافة اللغوية والضغط السردي الكبير والاختزال الواقعي والخيالي معًا، وهي عمل درامي من أزمات اجتماعية ونكوصات سياسية له قوة التأثير الجمالي كما هو شأن بقية النصوص الأدبية ذات الوقع الفني الآسر، والنكتة لا شكل لها سوى الكثافة النصية واختزال اللغة، وقد حاول البعض زجها في خانة أدب السخرية بوصفها نتاجًا عفويًا قادرًا على الإمتاع والمؤانسة والنقد الساخر.
وقد أظهرت دراسة أمريكية أن فقدان حس النكتة يعتبر ظاهرة مرضية، قد تصيب كبار السن أسوة بسائر عوارض الشيخوخة مثل تراجع التركيز وقصور الذاكرة والوعي.
وأكدت الدراسة التي أجرتها مجموعة طبية من معهد جامعة واشنطن أن قدرة كبار السن على تلمس النكات والتلميحات الطريفة تتراجع بسبب الخلل الذي يصيب مراكز الحكم المنطقي في أدمغتهم.
واعتمدت الدراسة التي نشرتها مجلة المجمع الدولي لأمراض الأعصاب، على قرابة 40 عجوزًا أصحاء البنية، تفوق أعمارهم 65 عامًا، حيث طلب منهم إكمال مجموعة من القصص والتعليقات بصورة طريفة.
كما توجّب عليهم اختيار الوصف الصحيح لعدد من النكات ووضع صور مضحكة لقصص كرتون وفقًا لأسوشيتد برس، وبالمقارنة مع نتائج الراشدين الأصغر سنًا، قال بروفسور الأعصاب، براين كاربنتر، الذي أشرف على الدراسة، إن البالغين الأصغر سنًا تمكنوا من إطلاق جمل مضحكة أكثر بمعدل 6% من كبار السن، كما نجحوا بوضع تعليقات أكثر طرافة بمعدل 14% على صور الكارتون.
وأوضح كاربنتر هدف الدراسة بالقول: «نحن لا نبحث فيما يراه الناس طريفًا، نحن ندرس مدى قابلية الأشخاص للتمتع بحس النكتة فهناك آليات علمية لفهم كيفية تلقى الناس للدعابة، ويبدو أن قدرة كبار السن على التعامل مع الأمور الطريفة يتراجع بسبب الخلل الذي يصيب مراكز الحكم المنطقي في أدمغتهم، لذلك تراهم يواجهون المصاعب لفهم مدلول النكتة.
واستخدم الطاقم الطبي العامل على الدراسة اختبارات خاصة لحس النكتة موضوعة منذ العام 1983، وقد سبق استخدامها في الكثير من الاختبارات الطبية الموثقة.