«هيكل»: الإعلام تناول زيارة «السيسي» لروسيا بـ«مبالغة خطرة».. لا يصح أن يقال «ربع ساعة بين رجلين قلبت الموازين الإقليمية والدولية».. هذه ليست لحظة «صباحي
قال الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، إن الإعلام تناول زيارة المشير عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع والإنتاج الحربي، إلى روسيا، بـ«مبالغة خطرة»، مضيفًا أنه «لايصح أن يقال إن هذه الزيارة قلبت الموازين الإقليمية والدولية».
وكشف «هيكل»، في الجزء الثاني من حواره مع صحيفة «الأهرام»، اليوم الأحد، أن «السيسي» فكر في مطالبة الشرطة بإزالة لافتاته وصوره من الكباري والطرق إلا أنه تراجع عن ذلك خوفًا على مشاعر وحماس مؤيديه.
وإلى نص الحوار:-
- ماهي القراءة المبتسرة للمشهد التي تقودنا إلى تلك الدوائر المفرغة أو المضطربة وتبعدنا عن التقدير السليم للواقع؟
دعنا نحاول استرجاع عناصر الموقف كما تطور حتى الآن على أرض الواقع، حتى وإن تورطنا في محظور التكرار بعض الشيء – لعله ينفع في التأكيد:
أولا: نحن بعد 25 يناير 2011 واجهنا واقعا أسوأ بكثير مما نتصور، لأن الأزمة التي أمسكت بخناق "مصر" كانت مثل عائمات الجليد، القليل منها ظاهر فوق السطح، والكثير غاطس تحت الماء.
وما كان فوق السطح ودعا كل قوى هذا البلد إلى الرفض والغضب والثورة – كان في حدود ما استطعنا أن نراه من أسباب القصور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن ظواهر الفساد المالي والسياسي، ومن تآكل هيبة مصر في محيطها العربي وفي عالم الدول، حتى زادت فوق ذلك مهزلة التوريث التي كانت حائرة بين عاملين لدى "مبارك":
- أولا: هو يميل للتوريث ربما ليغطي على ما جرى في فترة رئاسته.
- وثانيا: هو لا يميل للتوريث، لأنه يشفق على ابنه أن يتحمل تبعات ما وصلت إليه أحوال مصر، وقد وصفها "مبارك" بنفسه في حديث مع أحد أمراء السعودية عندما سُئل عنها قائلا: "أنه لا يريد أن يورِّث ابنه خرابة".
هو لم يقل متى أصبحت مصر خرابة، وهل كانت كذلك قبله؟! – وماذا فعل فيها إذن لمدة ثلاثين سنة حكم فيها وتحكَّم، مع العلم أن ثلاثين سنة هي نفس الفترة التي استغرقها صعود الصين، والتي استغرقها غياب الاتحاد السوڤيتي في زمن "بريچنيڤ"، وعودة روسيا المتعافية في زمن "بوتين"، وغير ذلك من نماذج ما يمكن أن يقع في أي بلد يحكمه أي قدر من الرُشد طوال ثلاثين سنة، ولك أن تلقى نظرة إلى ما فعله الآخرون من الهند إلى المكسيك إلى البرازيل.
الغطاء انكشف عن فداحة ما جرى قبل 25 يناير 2011، فقد ظهر أن مصر أصبحت بلدا يعيش على الدين الداخلي الذي راح يزحف إلى الخط الأحمر عند رقم تريليون جنيه مصري – ودين خارجي قارب الأربعين مليار دولار، لكن الحقائق كانت تائهة غائبة في الأوهام، أو ألعاب خداع النظر.
ظهر – كذلك – أن قطاعات بأسرها في الاقتصاد المصري كانت خارج الإطار العام، لا أحد يعرف عنها شيئا محددا، ومنها وربما أهمها قطاع البترول والغاز، فقد كان التصرف في هذا القطاع مخصصا وفي أيدي قلة محدودة تقرر في كل شيء، من الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن اتفاقيات التصدير إلى تحصيل العوائد، والقطاع يتصرف كما يُطلب منه، وهو في النهاية يورد فائض ما عنده للميزانية العامة حسب ما يقدَّر أو حسب ما يتيسر، ويجري الإعلان عن تصدير كميات، ثم يحدث استيراد لتعويض التصدير بأسعار أعلى، والمحصلة أن هذا القطاع أصبح مدينا وليس دائنا، ثم اكتشفنا أن التصدير تم بخديعة أن مصر لديها فوائض هائلة من موارد الطاقة، ثم إن الحقائق محجوبة حتى ظهر في النتيجة النهائية أن مصر بلد مستورد للطاقة.
وكانت الذريعة الأخيرة للنظام أنه حقق الاستقرار، ثم تبين أن ما حدث – إذا افترضنا حسن النية – أن مصر في ذلك الزمن وُضعت داخل ثلاجة للتبريد العميق، ثم اكتشفنا بعد كسر باب الثلاجة في 25 يناير أن الذي أغلقها نسي توصيلها بالكهرباء، فإذا ما فيها يفسد ويتلف بالعفن.. وأن الثلاجة تحولت إلى مخزن ضاع على البلد ما فيه، لأنه تجاوز عمره الافتراضي داخل صندوق من الصفيح لم يتصل بمصدر كهرباء يجعله قادرا على الحفظ والصون، إذا كان ذلك ممكنا لثلاثين سنة!!
- مسيرة السنوات الثلاث الماضية كانت شارحة لأشياء كثيرة، مواقف سياسية مضطربة في الداخل وانكشاف لجماعات دينية أرادت خطف وتأميم السياسة ومواقف لقوي إقليمية لعبت أدوارا لمصلحة الكبار. ماهي من وجهة نظركم المقدمات التي أفضت إلى الخروج الشعبي الكبير في 30 يونيو؟
بعد 25 يناير، ولأن السياسة في مصر كانت قد تحللت بعد ذوبان الجمود، ولأن الحقائق التي تكشَّفت كانت مخيفة، ولأن العالم الخارجي أصبح متداخلا ومتدخلا في كل بقعة، ولأن قضية الثورة في حد ذاتها أصبحت مطروحة للبحث – فإن "حالة الثورة"طرحت السؤال ولم تطرح الجواب، وكانت الحالة الثورية مكشوفة، وعندما وقفت القوات المسلحة إلى جانب شعبها، فإنها حققت في نفس الوقت انتقالا سلميا وهادئا للشرعية.
على قمة القوات المسلحة كان هناك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي رأسه المشير"طنطاوي"، وكان لدى هذا المجلس كثير من حسن النية، وقليل من الخبرة السياسية وهذا طبيعي، وقد احتار فيما يفعل، وتكاثرت عليه الضغوط، وأهمها ضغوط الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانت المشكلة أن هذا المجلس لم يكن مؤهلا للحكم، ولم يكن يرغب أن يشاركه في السلطة طرف آخر، لأنه من ناحية لا يعرف الأطراف ولا يعرف الوزن الحقيقي لكل منهم، ثم إن ما رآه معهم دفعه إلى الشك في الجميع، وفي نفس الوقت فهو من ناحيته تجنب مسئولية أي قرار – بأي حل.
وقد طمأن نفسه بأنه مجرد وسيط للانتقال، لا يرسم سياسة، ولا يبحث عن حلول، لأن ذلك اختصاص الوضع الدائم القادم وليس اختصاصه.
وفي نفس الوقت فإن ذلك المجلس العسكري تصور أنه إذا كان غير مسئول عن الحل، فمن الأفضل له أن يتجنب الحسم في أي قضية، أو مواجهة أي طرف، لأنه لا يريد المشاكل من أي ناحية أو مع أي طرف أيا كان، وهو ليس مكلفا بالحل على أي حال، والأفضل ترك أمره لمن يجيء بعده!!
وفي هذه الظروف من "اللاقرار" و"اللاحسم" – لمدة عام ونصف العام – فإن الساحة العامة في مصر أصبحت خلاء يتحرك فيه من يشاء كما يشاء، وفي هذا الخلاء وصل الإخوان المسلمين إلى الحكم، بدعوى أن لديهم الحل بل إنهم هم أنفسهم ذلك الحل.
وقصة الإخوان المسلمين في الإمساك بالسلطة معروفة، وأولها قرار دولي يخص المنطقة بمشروع للشرق الأوسط الكبير يقوده الأتراك، هدفه عندهم استعادة حلم خلافة موالية للغرب، تستعمل وتوظِّف قوة الدين، متمثلة – كما يتصورون – في الإسلام السياسي، لإغراق المنطقة في خضم يتوه الناس فيه بحثا عن ملكوت السماء حتى يخلص ملك الأرض للهيمنة، ويلتحق الشرق الأوسط الكبير بحلف الأطلنطي عمقا خلفيا أو ذيلا.
وكذلك فإن مشاكل البلد زادت تعقيدا، فقد بدا أن سلطتهم موجَّهة للتمكين من السلطة وليست لتحقيق أهداف الثورة، وأخذ التردي في كل مجال حده وزاد!!
وتخبَّط حكم الإخوان بين ادعاء الدين وتطويع الدولة، وبين الإمساك بمفاتيح الحكم، وبين مصالح الناس – وبين مطالب المجتمع وأوهام الجماعة – وبين القوى السياسية الدولية والإقليمية.
وتعقدت مشاكل مصر أكثر وأكثر فقد أضيفت مخلفات زمن "مبارك"، إلى آثار الفترة الانتقالية للمجلس العسكري، إلى فشل تجربة الإخوان.
وأصبح الوضع في جملته شديد الخطر داخل مصر وحولها.
وجاء 30 يونيو 2013 تصحيحا وإنقاذا.
- عبء مابعد 30 يونيو، حمل تبعات جمة للمؤسسة العسكرية.. كيف تقرأ تلك المسئولية التاريخية وتوقيتها ومخاطرها؟
•وعندما جرى وضع خريطة الطريق بعد 30 يونيو، كان جدول التوقيتات متلاحقا، ولكن الحركة ذاتها في إطار هذه التوقيتات كانت بطيئة، لأن انتظار المواقيت المحددة لا يكون أياما تحصى، وفواصل يجلس الناس في انتظارها حتى تجيء وتذهب.
هكذا فإن ستة شهور من الانتظار، وإحصاء الأيام يمضي، والجهد أقل من التحدي، والفكر لا يسابق الميعاد – زادت الأثقال واتسع الرتق على الراتق كما يقولون في الأمثال العربية.
واستحكمت التعقيدات لأن العبء أضيفت إليه أعباء فوقها أعباء، وفوق الأعباء أعباء، كل ذلك و"حالة الثورة" مستمرة، والطوفان يتدفق، وزاد عليه أن الإخوان المسلمين –لسوء الحظ – أثبتوا داخل الحكم – وخارج الحكم أكثر – أن وعدهم ووعيدهم أسوأ مما كان في زمن "مبارك".
كان هو يقول "أنا" أو حكم الإخوان.
ثم جاءوا هم يقولون "نحن" أو الإرهاب دما ونارا في سيناء وفي كل مكان وأي مكان في مصر!!
قُل لي من يقبل أو يرضى بأن يتحمل المسئولية في مثل هذه الظروف؟!!
ترك المشاكل الكبرى دون مواجهة حقيقية ضاعف من خطرها، وذلك متفق مع قوانين الجاذبية!!
وفي الواقع فإن الحمولات الثقيلة زادت في تسارع النزول – بأكثر مما يمكن أن تمسك به الرافعات.
والآن من يقبل أن يمد يده ليمنع الارتطام بالقاع؟!
من يقبل بالمسئولية؟! – وأهم من ذلك من يقدر؟! – ثم ما العمل، خصوصا وأن خريطة الطريق وصلت إلى النقطة الحرجة، وهي نقطة الرئاسة.
كان ذلك هو السؤال المعلق على مصر كلها، والرد على السؤال جاء بواقع تؤدي إليه حقائق الأشياء، لأن اليد التي تمتد للصد غالبا سوف تمتد من القوات المسلحة، خصوصا إذا كانت هي التي حمت "حالة الثورة" مرتين، ولو أن غيرها كان قادرا لمَّا طرأت الحاجة إليها، فقد فُرِضَ عليها أن تتقدم للحماية لأنها كانت وحدها القادرة على مسئوليتها، على أن المعضلة هي كيف يتم ذلك دون أن يؤسس لحكم عسكري، وهذه قضية كبرى هي الآن موضع اهتمام عالمي، تنشغل به أرقى الجامعات وبالذات جامعات أمريكا، عنوانها: هل تقدر يد تمتد من المؤسسة العسكرية أن تمهِّد لانتقال ديمقراطي تصل به "حالة الثورة" إلى مسارات أمل – أمل في إنجاز سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ثقافي – يقترب من أبواب المستقبل، ويطرق هذه الأبواب ويدخل؟!!
كيف؟! – وبمقتضى أي شروط؟! – ومتى نصل إلى باب المستقبل أو أبواب المستقبل نطرقها وندخل على جسور قادرة وواصلة؟!!
- في كل تلك المسارات المتعرجة والمنحنيات الخطرة، جربنا أشكالا متنوعة للسلطة والحكم الانتقالي حتى وصلنا إلى المراحل الأخيرة من فترة انتقالية حاسمة.. مما أشرت إليه عن "باب المستقبل" "والجسور القادرة"، ما هي المحددات التي تضعها للرئيس القادم؟
ملابسات هذه القضية استدعت مبكرا كافة الاجتهادات، وأتذكر أنني طرحت في عديد من المناسبات – حتى قبل سقوط نظام "مبارك" – فكرة مجلس لأمناء الدولة والدستور تكون القوات المسلحة حاضرة فيه، ويكون هذا المجلس جسرا للانتقال الآمن من"مبارك" إلى ما بعده، وكنت أقدر أن هذا الاقتراح يصعب قبوله من نظام غارق في وهم السلطة وقتها، لأن قبوله يكلف الأشياء فوق طباعها، إلى أن حل يوم 25 يناير وتوالت مشاهده الرائعة، ثم تكشف ما تكشف من غياب الفكرة وغياب القيادة وغياب الجسر أو الجسور إلى المستقبل، ثم ظهرت أعراض "حالة الثورة" دون تشخيص لطبيعتها، وتوالت المراحل:
المجلس العسكري – ثم الإخوان – ثم خارطة الطريق!!
وفي أجواء امتزجت فيها الحماسة والإحباط، واليقين مع الشك، والتناقض بين الموجود والمفقود، والمطلوب والواقع، والتشوق إلى الأمن، والتخوف من التسلط – شاع في البلد تيار غضب يرفض كل شيء.
رفض الحاضر في ظاهره مفهوم لأنه لأول وهلة نوع من تسليم إرادة الشعب لسياق الحوادث.
كانت أمامنا ثلاثة احتمالات:
هناك الممكن – إذا اتسعت دائرة الاختيار المدعوم بالإرادة.
وهناك المحتمل – إذا كان يستحق أن نبحث عنه.
وهناك غير المحتمل – إما لأنه ليس موجودا، أو أن بذرته لم تنبت بعد.
وفي هذه الحالة، فإن الرفض على طول الخط يفقد الأمل فرصته، لأن الرافضين يطلبون مثالا ليس متاحا في الواقع، على الأقل هذه الساعة، وعلى الأقل في هذه الأحوال.
وصلنا إلى النقطة الأخيرة من خريطة الطريق، وجاء وقت اختيار الرئيس الذي يتحتم عليه أن يكون مسئولا على الأقل عن وضع مصر على طريق آمن ومأمون له شروط:
- أن يتصدى لمشكلة أمن مضطرب، ومصاعب تشق على الناس في حياة كل يوم.
- وأن يعالج ضرورات عاجلة أهمها: أزمة المياه – وأزمة الغذاء – وأزمة الطاقة، لأنه لا يمكن الوصول إلى أبواب المستقبل دون اطمئنان إلى أن هناك ري للأرض والناس، وغذاء ضروري لحياتهم، وطاقة لحركة كل يوم.
- وأن يواجه مشكلة التنمية الشاملة والعدل الاجتماعي، مع وجود ارتباط بين المشكلتين.
وأن يتأكد من مجموعة ضمانات:
- أن الوطن يعمل بكامل قواه وقدراته.
- أن حدود الوطن شرقا وغربا مُصانة.
- أن مصر في مكانها اللائق في الإقليم – وفي العالم.
- وأن طريق المستقبل بكل خبئ على الطريق إليه مؤدٍ إلى السلامة!!
- كيف حكمت على المسئولية الملقاة ( أو التي تلوح في الأفق) على عاتق رجل ينتمي للمؤسسة العسكرية لرئاسة مصر في تلك المرحلة؟
أعترف لك أنني من حرصٍ على مستقبل الوطن، ورغم ابتعاد عن الساحة السياسية اخترته لنفسي لأسباب أولها حقائق السنين – أطلت التفكير في كل ما سمعت، وكنت أفضل اتِّقاء المحاذير على طريق المستقبل – بخشية أن تبدو المقدمة إليه من داخل القوات المسلحة – نوعا من التدخل العسكري، على أن الأمر تبدى لي أكثر وأخطر، فالأمر ثقة، والأمر قدرة، والأمر مصداقية، والظروف مُلحَّة ودقيقة، ومزالقها زحام على الساحة، ومع ذلك فقد جربت اختبار كل ما تبدَّى لي وحتى ما خطر على خيالي.
لكن مسألة الثقة – مسألة القدرة – مسألة المصداقية كانت جميعها تشغل بالي وتُلِح عليَّ.
أعترف لك أنه خطر ببالي وسط الحيرة ما بين المحاذير والحقائق أن الرئاسة يصح إسنادها إلى واحد من الرجال الذين ظهرت أسماؤهم في الساحة وهم كُثر، رشحوا أنفسهم، أو رشحهم آخرين، وربما كان بينهم من يستحق – خطر ذلك ببالي رغم إدراكي أن المشاكل شديدة التعقيد، عصية على الحلول التقليدية، لأن "حالة الثورة"وصلت إلى ما يشبه حالة الحرب!!
واستعرضت الساحة بعرضها وتبدى لي أن التحدي أكبر من الساحة بالطول والعرض أيضا!!
في بداية التجربة الانتقالية بعد "مبارك" فكرت في مجلس رئاسي وظننت لبعض الوقت أن تلك تجربة موجودة في بلد من أكثر بلدان العالم تقدما، وهو "سويسرا".
مجلس للرئاسة في "سويسرا" يتناوب أعضاؤه كل ستة شهور على الرئاسة، وتصدر قراراته باسمهم جميعا.
لكني تحسبت أن ذلك قد ينجح في "سويسرا"، وهي البلد الذي أتقن صناعة الساعات لأنه يعرف قيمة الزمن، ولكن شكي كبير أنه يصلح لبلد من العالم الثالث مثل "مصر".
وزاد من شكوكي أنني تابعت بعض أنشطة ما سُمي بـ "الدبلوماسية الشعبية" التي يُقال لنا إنها تسافر داعية لمصر، وشارحة لأحوالها، لكني فوجئت بأن هذه الوفود –وبعضها يضم أسماء كبيرة – تعاركت في الخارج، وعلى مرأى ومسمع من مضيفيها.
عرفت مثلا في بلد عربي أن بعض المسافرين من وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية اختلفوا وتعاركوا على الغُرف، وعلى السيارات، وعلى المقابلات، وعلى من يتحدث باسم وفدهم، ومن يتصدر الصور، ومن يحتل مقاعد الشرف في الاستقبالات.
وبعض ما سمعته مزعج وبعضه مهين، وهو في النهاية لا يبشر باحتمال أن تتكون جماعة متسقة متوافقة يمكن أن يضمها مجلس رئاسي تنتقل إليه شرعية الدولة، في أوقات شديدة الحرج وشديدة الخطر.
وعلى أي حال فقد فات الآن وقت الكلام عن مجلس للرئاسة وتجاوزته الظروف، ونحن الآن في ظل دستور معتمد، وفي انتظار رئيس منتخب ومجلس شعب أو مجلس نواب منتخب.
- وكيف رأيت إقدام المشير السيسي على تحمل مسئوليات أكبر – من واقع قراءتكم للمشهد – ومن واقع معرفتكم به عن قرب؟
عندما اتجهت الأنظار إلى المشير "عبد الفتاح السيسي" باعتبار شعبيته المؤكدة، وقد عززتها التجارب التي مرت على "مصر" في ثلاث سنوات من "حالة الثورة" ودائرتها التي لا تكتمل – أحسست بالفعل أن الرجل عازف عن طلب الرئاسة، راض عما تحمَّل به، بالإضافة إلى أنه بالفعل أفصح مرات عن بعض هواجسه:
- لا يريد أن يقع أحد – في الداخل أو الإقليم أو الخارج – في خطأ أن 30 يونيو كان انقلابا عسكريا.
- لا يريد لقطاعات الشباب في الداخل أن يتصوروا أنه "حكم عسكر".
- لا يريد لأحد أن يشك أنه – أو أن القوات المسلحة كلها – في وارد انتهاز فرصة، وهو يعرف أن العالم يتغير، وأن العصور اختلفت، وأكثر من ذلك فهو رجل يسيء إليه أن يظن أحد أن رئاسة الدولة مكافأة مستحقة على خدمات أداها، وهو أول من يفرق بين جسامة المسئولية، ومكافأة الخدمة.
وكان قوله على حسب ما سمعت: "أنه يريد للبلد أن يختار بحرية، وأن يجد بين المدنيين من يحمل أمانة المسئولية، وهو واثق من التزام القوات المسلحة بتسليم الشرعية إلى من يختاره الشعب دون إكراه، أو تدخل خارجي وضغط".
ويضيف عليه ما مؤداه: "أن هناك كثيرين من أفراد الشعب وقواه يرونه أمامهم، ويحسنون الظن به ويرشحونه، لكنه يرجوهم أن لا يزيدوا من الإلحاح عليه، وأن يجدوا غيره.
وأعرف أنه سُئل مرة إذا كان يمكن لأي اختيار حر أن يجري خارج الواقع، أو خارج الممكن، أو خارج المحتمل، وكان رده: دعونا نبحث!!
هل تسمح لي أن أضيف شيئا، أنني كنت شخصيا أوافق "السيسي" على ما بلغني من أسباب تردده، فقد كنت أفهم منطقه وأتفهمه، وكنت أكثر من ذلك أعرف حجم الضغوط في الإقليم وفي الخارج وأتحسب لها.
هل اعترف لك بشيء؟!!
في لحظة من اللحظات رحت أفكر في غيره، وخطر ببالي اسم الرئيس المؤقت "عدلي منصور".
ماذا لو ترشَّح ؟!!
هذا رجل قانون متميز وصل إلى رئاسة المحكمة الدستورية العليا في مصر.
وقد دعته الظروف إلى رئاسة الدولة مؤقتا، وقَبِلَ المسئولية وتحمَّلها بنزاهة قاضٍ عادل، يعرف القانون ويلتزم به.
أكثر من ذلك فإنني قابلته مرة في أيامه المبكرة في بيت الرئاسة، وقد بدا أمامي متحفظا، وإن بدا أيضا مستقيما مع نفسه ومع الظروف، ثم التقيت به بعد ذلك وأدهشني إلى أي مدى تمرس مع التجربة، وتجلى فكره وانطلق خطابه.
إلى جانب ذلك فهو نموذج مشرِّف لقيمة الحراك الإنساني إذا ما تفتحت الفرص الطبيعية أمامه ليظهر قدراته الكامنة.
كانت معرفة الناس به في حدود عمله لا يتجاوزه، لكنه عندما وُضع موضع المسئولية، تفتَّح استعداده وتجلى، وفي ظرف ستة شهور استطاع تأكيد ما هو كأمن داخله من قدرة واستعداد.
وكنت أسأل نفسي أحيانا وأنا أتابع أداءه.. كم من القادرين المحتملين خسرتهم مصر حين ضاعت عليهم فرصة الحِراك أيام "مبارك"؟!!
كم من الناس حجبهم وجود رجال "مبارك" على قمة السلطة، رابضين في مقدمة الصف يعوقون حركة من بعدهم طوال ثلاثين سنة كاملة؟!!
ثلاثة أجيال من الرجال والنساء القادرين تعطلوا وحُجبوا.. ثلاثة أجيال ضاعت، لأن رجال "مبارك" أمسكوا بالقمة ثلاثين سنة، لا يتزحزحون عن مواقعهم، ولا يفسحون طريقا لغيرهم!!
وبالفعل فإنني وبعد أن خطر ببالي ما خطر – ناقشت فكرة ترشح المستشار "عدلي منصور" مع عدد من الأصدقاء المهتمين بالشأن العام، والذين تلح عليهم هموم الوطن وضرورات مستقبله، وكان رأي كثيرين منهم يزكي الرجل ويشهد له.
ثم عرفت أن الرجل بنفسه – وبأمانة ونزاهة قاضٍ – قال إنه لا يستطيع أن يترشح لمانع قانوني يفرض عليه أن يرد نفسه عن الترشح.
وكان أكثر ما لفت نظري أن الرجل تصرَّف بصدق مع النفس ومع الناس، لكن إحساسي بالمأزق الذي يواجه البلد زاد بنفس المقدار وربما أكثر.
- لماذا ظهر تعبير "مرشح الضرورة" من الأستاذ هيكل في توقيت كان الناس يريدون تجنيب الرجل تبعات المنصب خوف على المؤسسة العسكرية؟
وهكذا فإننا عُدنا من جديد إلى عقدة العقد في هذه اللحظة.
كل وطني في هذا البلد الآن يطلب: حرية وعيشا وحياة عامرة بالكرامة والأمل.
لكن الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كما تعرف، والمطلوب يحتاج إلى شبه معجزة.. شبه معجزة ممكنة إذا توافرت لها الشروط، عُبئت الإمكانيات، واستدعيت كوامن الإرادة القادرة على الأمل.
في هذا الإطار طُرح اسم "عبد الفتاح السيسي"، وقلت إنه "مرشح ضرورة"، ليس له أن يحجب غيره، وإن كانت مقتضيات الحقيقة تشير إليه.
بعضهم عتب عليَّ أن استعملت وصف "مرشح الضرورة"، بمقولة أنه رجل وراءه شعبية جارفة تدفع به للرئاسة، ولم أر وجها للتناقض بين الطلبين:
شرط الضرورة – وشرط الشعبية الجارفة، ليس هناك تناقض بل العكس هناك فرصة، وأن يكون مرشح الضرورة هو نفسه مرشح الاختيار، فذلك أدعى إلى الطمأنينة.
ويوما بعد يوم بدأت الحقائق تفرض دواعيها العملية، وكذلك دواعيها الشعبية، فقد ظهرت أغلبية هائلة تدعو للرجل وتطالب به، وإن قلق البعض – وأنا واحد منهم – من مظاهر مهرجان لا يحتاجه الرجل ولا يسمح به واقع الحال ولا مناخ الأزمة ولا جلال الثورة، واعترف أنني كنت ضمن هؤلاء القلقين، وكان ظني أن المبالغة أول أعداء الحقيقة، وأعرف للإنصاف أنه في بعض اللحظات فكر أن يطلب إلى البوليس الحربي إزالة اللافتات ورفع الصور المعلقة على الطرق والكباري، لكنه خشى أن يسبب ذلك حرجا لبعض المتحمسين والمتطوعين، وفضَّل أن يبعث إليهم جميعا برسالة تهيب بهم أن لا يسيئوا إليه وهم يتصورون أنهم يؤدون له خدمة – هو في الواقع لا يحتاجها.
- ما هي الضمانات التي يحتاج أي نظام قادم لتقديمها من أجل أن يحكم دون منغصات مثلما حدث في فترة حكم محمد مرسي؟
أحوال البلد خطيرة، ولا يملك أحد منا أن يفكر في المستقبل بالتشاؤم ولكن بالحساب، وأن يواجهه بالتفاؤل الحذِر والمحسوب.
هناك وطن وشعب، وهناك مستقبل وهناك طريق، والمشاكل أكثر مما يتصور معظم الناس، والشعب المصري قادر على مسئولية الأمل، وليس لديه بديل آخر غير الأمل!!
لقد ضاع منا وقت طويل.. شردنا فيه عن الخطوط الإستراتيچية الرئيسية للأمن القومي المصري، ونسينا فيها مصالح أغلبية الشعب ومطالبه، وحان الوقت لنتصرف على نحو جاد، لأن التراخي إزاء المسئوليات أو التخبط والقصور في الأداء لم يعد متاحا لنا.
هناك نظام جديد يوشك أن يقوم بفكر جديد، وبرؤية واضحة وإرادة مصممة، ونحن لا نملك غير ذلك.
واعتقادي أن هذا النظام القادم تلزمه ثلاثة ضمانات مُلِحَّة:
الأولى: رؤية واضحة محددة لشكل المستقبل على المدى القريب والتحرك نحوها، ثم خطة قادرة على صنع المستقبل المرجو والمطلوب – والاستعداد لها.
والثانية: أن قوى الشباب في مصر لابد أن ينفسح لها المجال واسعا، لكي تعرف، وتشارك، وتتحمس لمستقبل هي من يملكه، لأنها هي من سوف يسكنه، وحتى إذا جرى بعض الجموح فتلك طبائع الشباب، إضافة إلى أنه جزء من التجربة يتعلم فيها بالصواب والخطأ.
والثالثة: أنه سواء في مرحلة الرؤية أو مرحلة الخطة، فإن البلد يحتاج إلى نوع من"التجمع الوطني من أجل المستقبل".
لا أظن أن المشير "السيسي" إذا وقع انتخابه سوف يشكِّل حزبا سياسيا، وإذا قيل أن التفاف الجماهير حوله يكفيه، فلابد أن نتذكر أن التجارب السابقة علَّمت الجميع أن جماهير العالم العربي كله كانت ضمن أهم العوامل التي حمت النظام الثوري في مصر، ننسى أحيانا أن قوة أي نظام في مصر تكمن في تأثيره خارج حدوده ووضعه في إقليمه، والأوضاع حول مصر الآن تمر بمرحلة حرجة تحتاج فيه إلى من يسندها، وهي لسوء الحظ لم تعد تطلب ذلك من مصر، لأن أربعين سنة مما سُمِّي بمصر أولا ومصر أخيرا ومصر وحدها في سلام مع "إسرائيل" وعلاقة خاصة مع "أمريكا" – بددت الكثير من قواعدها المساندة خارج حدودها السياسية!!
وظني وهذه فكرة أتمنى لو أنها تُطرح للمناقشة، أن الرئيس القادم – أيا كان – وبعد انتخابه، وبعد اتمام الانتخابات البرلمانية لاحقا – قد يجد مناسبا ولازما أن يدعو إلى نوع من التجمع، تمثَّل فيه الأحزاب السياسية الشرعية، وينضم إليه عدد من رموز التيارات الرئيسية وضمنها التيار الإسلامي البريء من ممارسة الإرهاب.
جبهة وطنية – تجمُّع لا تذوب فيه القوى في بوتقة تنظيم واحد، وإنما يبقى كل طرف بما يمثله، بحيث تكون السياسات وليس التشريعات، والتوجهات العامة وليس القوانين ذاتها وإنما الدواعي المنشئة للقوانين على أساس الدستور – هي شاغل هذا التجمع، بحيث يكون هناك اتفاق تتعدد مصادره على سياسات وتوجهات تصد عن البلد خطر استمرار ما نراه الآن من منازعات ومشاحنات واستقطابات شديدة الحِدة، حتى تكون قوى الشعب حاضرة عند المنبع، وقادرة عند المصب!!
كل الأمم يمكنها – في ظروف الحرب وفي ظروف الأزمات – أن تتجمع في نوع من الجبهة الوطنية، لمواجهة المخاطر والمصائب.
التشريع سوف يبقى بالطبع في مجلس النواب أو مجلس الشعب.
ولكن السياسات عند المنبع يمكن بحثها، ومناقشتها مبكرا، والاتفاق عليها في جبهة وطنية تتعدد فيها الآراء، ويكون القرار في النهاية توافقا يدفع ولا يعطل، ويشجع الحوار ولا يصادره.
وفي كل الأحوال فإن مصر لا تستطيع أن تواصل تمزيق نفسها على العشاء كل مساء على شاشات الفضائيات، ولا تستطيع أن تعذِّب نفسها على الإفطار كل صباح مع صفحات الجرائد، وإنما لابد من صيغة، تحفظ التعددية اللازمة للديمقراطية، وتستدعي التوافق الضروري للسلامة، وتقبل شراكة شباب من حقه أن يعرف، ومن حقه أن يعترض، دون أن تكون مواجهة المعارضة بالأمن، وإنما بالتواصل بين الحاضر والمستقبل!!
- التطور الأحدث والأبرز في الأيام الأخيرة هو زيارة المشير عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع ونبيل فهمي وزير الخارجية لموسكو. كيف تري توقيت الزيارة، وتأثير التقارب على العلاقة مع واشنطن، والأهم ماهي حسابات التقارب في بيئة متغيرة تختلف بالقطع عن سنوات الشراكة المصرية – الروسية من الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات؟
علاقاتنا بالعالم تحتاج إلى عملية ترميم وإصلاح ضخمة، فقد مرت علينا فترة ركزنا فيها على علاقة واحدة، هي العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية.
والخسارة مضاعفة، فنحن لم نضع كل ما لدينا في السلة الأمريكية، ولكن الأخطر أن العالم راح ينظر إلينا باعتبارنا بالفعل في هذه السلة، وأن أمرنا مفروغ منه ومواقفنا محددة سلفا إما بإشارات من واشنطن، أو بإيماءات منها إذا لم نفهم الإشارة من أول مرة.
ذلك الرهان الذي وضعته السياسة المصرية في وقت من الأوقات لم يخسر فقط في الحرب والسلام، وإنما أثر أيضا على حلم التنمية، وعلى حلم العمل العربي المشترك، وعلى دور مصر في الإقليم وفي العالم.
ربما أن أكبر الأخطاء التي وقعنا فيها ضمن هذا الرهان هو العلاقة مع الاتحاد السوڤيتي الذي أصبح "روسيا" الآن!!
الروس لم يقصِّروا معنا وإنما توافقوا معنا على مصالح مشتركة، وليس دقيقا أنهم تعاونوا بكل ما تصرفوا به معنا من أجل مصر وحدها، ولكنهم فعلوه بما كانت تمثله مصر في العالم العربي، وفي أفريقيا، وفي العالم الثالث أيامها.
كل تصحيح لعلاقاتنا مع القوى الكبرى لازم وضروري، وكل جهد في هذا السبيل له قيمة، ومن المهم أن يتسع هذا الجهد لكي يصل إلى مواقع كانت قريبة منا: "الصين" -و"الهند" و"أفريقيا" و"أمريكا اللاتينية" - هناك جهد كبير مطلوب، لكن الخسائر الفادحة التي وقعنا فيها حين تحوَّلت علاقاتنا مع العالم إلى زيارات كرنڤال: طيارات تحط، وحرس شرف يصطف، وطوابير مدعوين تنتظر، ومآدب تُقام، ثم تعود المواكب محمَّلة بالهدايا.
ربما أن لي ملاحظتين على تغطية الإعلام المصري للزيارة:
- أولاها: مقلق، بتركيز هذا الإعلام أكثر من اللازم على تعليق الرئيس الروسي"بوتين"، والذي قال فيه "إن ترشح المشير "السيسي" ينم عن شعور بالمسئولية"، لا أعرف مبررا لهذا التركيز، سوى عادة وقعنا فيها خلال زمن انسحابنا من العالم، وشوقنا إلى كل شهادة تُعطى لنا، لكن التركيز على الزيارة كانت مفيدة بالتأكيد ومستحقة.
والزيارة كانت ردا على زيارة سبقتها من وزير الدفاع الروسي ومعه وزير الخارجية، وردها جاء من وزير الدفاع ووزير الخارجية.
صحيح أن وزير الدفاع الروسي حين زار القاهرة، كان المشير "السيسي" هو وزير الدفاع، لكنه الآن مرشح للرئاسة، وأظن أن الإعلام المصري كان عليه أن يرد المسائل إلى أصلها وفي إطارها دون إيحاءات تخلط الوزير بمرشح الرئاسة.. أظن أننا في هذه الفترة الحرجة نحتاج إلى تجنُّب خلط الأوراق، خصوصا بواسطة الإعلام الرسمي أو غير الرسمي.
- والملاحظة الثانية: أن الإعلام صوَّر الزيارة وكأنها استعادة لدور مصر الإقليمي والدولي، وتلك مبالغة خطرة، لأن الشوط أمامنا مازال طويلا - وطويلا جدا.
دعوا "السيسي" يتحرك بهدوء ويتحرك بثقة، دون أن نحمِّله أعباء مبالغات إعلامية تثقل عليه دون مقتضى.
وربما علينا أن نتذكر أن الرأي العام عندنا وحولنا وبعيدا عنا يتشكل بالانطباع أكثر مما يتأثر بالاقتناع - "بوتين" قال ملاحظة وهي صحيحة، لكن التركيز عليها بأكثر مما هو لازم للسياق، قد يعطي انطباعا يخرج بها عن القصد والمقصود!!
إضافة إلى ذلك فإنه لا يصح أن يُقال أن زيارة "موسكو" قلبت الموازين الإقليمية والدولية.
ساعة ونصف الساعة في اجتماع بين وفدين، وربع الساعة لقاء ثنائي كرجلين.
والموازين في الزمن الجديد لها حسابات أخرى، ولها قواعد لابد أن ندرسها، وببساطة فهذا ليس زمن الحرب الباردة، ومن الخطأ اعتماد منطقها في زمن لم يعد زمنها!!
- بما تنصح المرشحين في السباق الرئاسي الجديد؟
الساحة الانتخابية هذه المرة تحتاج من كل المرشحين إلى خطاب من نوع مختلف.
والسبب أن البلد عند مفترق طرق لا يحتمل الخطأ، وإنما يحتمل الصواب فقط، ولذلك عليه أن يتوقى الحذر.
وهناك مدرستين في الخطاب الانتخابي عادة:
- خطاب من الأحلام الوردية يتصور بعض الناس أنه يكسب الأصوات على أساس أن حساب الأحلام الوردية يجيء بعد الفوز وبعد السلطة، ووقتها لكل حادث حديث!!
- وخطاب يعتبر أن أحلام الورد مناسبة لأيام الاحتفال، وأما أوقات العمل الجاد، خصوصا لمواجهة تحديات مصيرية – فإنها تحتاج إلى خطاب المصارحة، واستدعاء الإرادة بعده.
كلا المدرستين في الخطاب معروفة في منافسة الانتخابات، وفي ساحة السياسة عموما، وحتى في ظروف الحرب.
ولعل أظهر الفوارق بين الخطابين هو ما عرفناه من خطاب الحرب العالمية الثانية:
- خطاب "أدولف هتلر" الذي بدأ الحرب العالمية الثانية بحلم وردي يضمن لألمانيا سيادة كاملة على أوربا، ولألف عام من سيادة الرايخ الثالث الذي أسسه جامعا للأمة الألمانية بأسرها.
- ثم هناك خطاب ثانٍ قدمه "ونستون تشرشل" حين تولى رئاسة الوزارة البريطانية زمن الحرب، وحليفه الرئيسي زمنها - فرنسا - يستسلم أمام "هتلر"، والجيش البريطاني في أوربا ينسحب انسحابا كاملا وغير منظم أمام جحافل المدرعات الألمانية، من ميناء"دنكرك" عائدا إلى بريطانيا، ووقف "تشرشل" وقتها يقول للشعب البريطاني:
"ليس عندي ما أقدمه لكم غير العرق والدم والدموع".
وكان "هتلر" بحديث الورد غارقا في الأوهام.
وكان "تشرشل" بمواجهة الواقع صادقا في تصوير الحقيقة.
وانتهت الحرب العالمية الثانية، والنتيجة:
- خطاب "هتلر" الوردي وأحلامه بالرايخ الذي يعيش ألف عام وصلت إلى تدمير الرايخ الثالث، واستسلامه بلا قيد أو شرط، وانتحار "هتلر" نفسه بعد أن أوصى بحرق جثمانه حتى لا يمثل الغزاة بجثته، ولاتزال معالم مخبئه الأخير مزارا سياحيا موجودا وراء بوابة"براندنبورغ"، يقصد إليه بعض السواح ليتذكروا!!
- وخطاب "تشرشل" بالحقائق عبَّأ بريطانيا بقدر حجم التحدي، ووصل إلى الجائزة المطلوبة في أي حرب، وهي جائزة النصر!!
ينسى بعضنا قواعد بدهية في صراعات الأمم.
- الشجاعة دون معرفة – مهانة.
- والمعرفة دون شجاعة – عجز.
والقاعدة الذهبية في الصراعات أن تجتمع الإرادة والحقيقة في نفس الموقف، خصوصا إذا كان الموقف أزمة شبه وجودية، أو وجودية بالفعل.
لكن بعضنا يتفاءل ويتشاءم.
يريد أن يسمع الكلمة "حلوة" لأنها تشيع الراحة.
ولا يريد أن يسمع الكلمة "واضحة" لأنها تشيع الإحباط.
يقيني أن خطاب الانتخابات القادمة مطالب بأن يؤجل ولو مؤقتا مواسم الورد، وأن يواجه بشجاعة مطالب الحقيقة، لأن السنوات القادمة سوف تكون اختبارا بين مستقبلين:
- مستقبل تتحول فيه مصر بأحلام الورد الواهمة – إلى دولة فاشلة.. كل الزهور تذبل صباح اليوم التالي.
- أو مستقبل تتحول فيه مصر بشجاعة معرفة الحقيقة واستدعاء الإرادة – إلى دولة قادرة على العصر، ومواكبة للتقدم.
يظل اعتقادي بأن صوت التنبيه إلى الأزمات أكثر لزوما من اللجوء للتمويه على حقائق هذه الأزمات.
ولست أعرف حتى الآن لماذا يكون التحذير إحباطا، ولماذا يكون التمويه أملا؟!!
مازلت أتذكر تجارب عديدة مباشرة آخرها تجربة تخص الرئيس الأمريكي "باراك أوباما"، كان داخلا إلى البيت الأبيض وسط حفاوة عربية تبشر به رجلا قادرا على فهم قضايا العرب ونصرتهم، فهو باللون، وبدماء أفريقية في عروقه، وبإيحاءات إسلامية تظهر حتى في اسمه: "باراك أوباما" ("باراك" أصلها بركات، و"أوباما" تصحيف لأبو عمامة)، وهذا معناه أن أصول الرجل: عربية (بالاسم)، إسلامية (بالعمامة)، بل وإن أحد أحباء الرئيس الأمريكي الجديد كان في الأصل شيخ طريقة!!
وأجريت حديثا في ذلك الوقت مع جريدة "الشروق"، إدارة معي عدد من أقدر وألمع الصحفيين في مقدمتهم الصديق الراحل الأستاذ "سلامة أحمد سلامة"، وفي هذا الحديث أبديت مخاوفي من أن "أوباما" لن ينجح، ولن يفهم، ولن يحسم، وأبديت أسبابي، وكان أكثر ما أثار دهشتي أن كثيرين ردوا عليَّ بدعوى إثارة الإحباط، وأتذكر ردا موجها إليَّ نشرته "الشروق" أيضا، وكان عنوانه مباشرا يقول لي: بشِّر ولا تنفِّر يا أستاذ "هيكل".
ولم أكن أريد أن أبشِّر أو أنفَّر، فتلك ليست مهمة صحفي، وإنما مهمة الصحفي أن يتابع ويرصد، وأن يعرض ويحلل قدر ما يرى من الحقيقة، ووفق ما يتقصى من احتمالاتها.
باختصار المعركة الانتخابية القادمة يتحتم أن تكون خطابا واضحا صريحا، وليس إنشائيا مراوغا أو مداورا.
أحلام الورد بلا مستقبل، والحقيقة هي المستقبل، مع أني أعرف أن الدواء مر، والمخدر مريح!!
لا تنفع البشارات إذا لم تساندها حقائق – البشارات بغير حقائق على الأرض قش طائر تتلاعب به الرياح في يوم عاصف!!
- أعلم موقفكم من شخص حمدين صباحي وتقديركم لتاريخه، لكن إعلانه الترشح ربما ينطوي على كثير من النقاط الخلافية في تلك المرحلة. كيف تقرأ قراره؟
- هذا رجل يملك مواهب سياسية تجلت منذ أن كان ناشطا طلابيا في الجامعة، ثم نمت هذه المواهب حتى أصبح جاهزا للعمل السياسي العام.
- هذا رجل لديه تجربة سياسية، أخذته إلى مواقع معتبرة في الساحة العامة.
- وهذا رجل جرب معركة رئاسية حصل فيها بالفعل على ملايين الأصوات.
- وهذا رجل تتحلَّق حوله جماعات من الشباب متحمسة.
- وهذا رجل لديه طموح – والطموح حق لكل همة.
مُضافا إلى هذه الأسباب أن دخوله إلى الحلبة صحي، وإلا أصبحت ساحة الانتخابات خالية من روح المنافسة، وهي مناخ الاختيار.
لكن لدى "حمدين" مشاكل، ولديه محاذير.
المشاكل:
1- أنه بعيد عن الساحة العالمية.
2- أنه لم يتولَ مهاما في التنفيذ أو التخطيط تثري معارف النظرية العامة.
أما المحاذير فهي:
أولا: هذه اللحظة الصعبة والمعقدة قد لا تكون لحظته.
وثانيا: أنه مازال في سن شباب، (حتى وإن كان شبابا نسبيا)، وفي مقدوره أن ينتظر لحظته.
وكان أن الرجل فكر طويلا وانتظر كثيرا ثم حزم أمره ودخل، وأظن أنه حسنا فعل، وإن كنت أشفق عليه من محددات على حملته الانتخابية تفرضها الحقائق وليس المجاملات، وأمامه سؤال عصي وهو:
- كيف يستطيع تقديم نفسه، دون تجاوز في حق منافسه، خصوصا إذا كان هذا المنافس يملك أرصدة قبول هائلة لدى جماهير الناخبين؟!!
إنني ضمن هؤلاء الذين يتمنون أن يجد "حمدين صباحي" إيقاعه الصحيح في حملته الانتخابية، وقد بدى لي عندما أعلن اعتزامه ترشيح نفسه أن إعلانه جاء بميزان ذهب، لكن المشكلة هي هل يستطيع أن يحتفظ بميزان الذهب عندما تقترب العملية الانتخابية من مرحلتها الحاسمة.
هل يستطيع أن يضبط كل الأعصاب؟!
أعصابه هو يقدر عليها، وأما أعصاب غيره من جماعته، فهل تقدر؟!!
المشكلة الرئيسية هنا أن قوى المستقبل على تنوع أطيافها تجمعها شراكة أمل، لكن الحماسة المشحونة قد تأخذ الناس إلى أبعد مما تقتضيه أسس هذه الشراكة!!