رئيس التحرير
عصام كامل

‭..‬ونحن‭ ‬الموتى‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة

وقف‭ ‬بثبات‭ ‬كالجبل‭ ‬الراسخ،‭ ‬وهو‭ ‬يمسك‭ ‬بميكروفون‭ ‬البث‭ ‬المباشر‭ ‬يعدد‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته‭ ‬ويحدد‭ ‬الأسماء‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬أبيه‭ ‬وأمه‭ ‬إلى‭ ‬أشقائه‭ ‬وخالاته‭ ‬وأعمامه‭ ‬وأطفال‭ ‬قذفت‭ ‬بهم‭ ‬الغارة‭ ‬إلى‭ ‬أسطح‭ ‬المنازل‭ ‬المجاورة،‭ ‬أشلاء‭ ‬الضحايا‭ ‬تناثرت،‭ ‬وبعضهم‭ ‬دفن‭ ‬بعمق‭ ‬ستة‭ ‬أمتار‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭.‬


لم‭ ‬يكن‭ ‬مؤمن‭ ‬المشرافى‭ ‬مراسل‭ ‬الجزيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البث‭ ‬الأكثر‭ ‬واقعية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الإعلام‭ ‬الدولي‭ ‬مراسلا‭ ‬عاديا،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬مقاتلا‭ ‬صلبا‭ ‬لم‭ ‬تذرف‭ ‬عيناه‭ ‬الدموع،‭ ‬كان‭ ‬صوته‭ ‬متهدجا‭ ‬يحمل‭ ‬كل‭ ‬مضامين‭ ‬التحدي‭ ‬المختلط‭ ‬بهول‭ ‬المأساة،‭ ‬فقد‭ ‬مؤمن‭ ‬واحدا‭ ‬وعشرين‭ ‬فردا‭ ‬من‭ ‬أسرته‭ ‬وهو‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬يقاتل‭ ‬بالميكروفون‭.‬
 

فى‭ ‬الخلفية‭ ‬تتزاحم‭ ‬النفوس‭ ‬الباقية‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬وهم‭ ‬ينتظرون‭ ‬الدور‭ ‬القادم،‭ ‬وأصوات‭ ‬تتصارع‭ ‬بين‭ ‬أطفال‭ ‬وشيوخ‭ ‬وسيدات‭ ‬وشباب،‭ ‬يتنقلون‭ ‬بين‭ ‬البنايات‭ ‬التي‭ ‬جاءها‭ ‬الدور‭ ‬وتحتفظ‭ ‬تحت‭ ‬ركامها‭ ‬بأحبة‭ ‬قضوا،‭ ‬وآخرين‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬خروجهم‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭.‬


فى‭ ‬عواصم‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يقولون‭ ‬عليه ‬حر‬،‭ ‬تتحرك‭ ‬المظاهرات‭ ‬وهي‭ ‬ترفع‭ ‬أعلام‭ ‬فلسطين‭ ‬المحتلة‭ ‬وتتعالى‭ ‬أصواتهم‭ ‬‮،‬فلسطين‭ ‬حرة،‬‭ ‬أو‭ ‬‬الحرية‭ ‬لفلسطين‮‬،‭ ‬وفى‭ ‬عواصمنا‭ ‬العربية‭ ‬لا يزال‭ ‬الناس‭ ‬يرزحون‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬محتل‭ ‬وطني‭ ‬أقسى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المحتل‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬كل‭ ‬فنون‭ ‬القتل‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭.‬


أن‭ ‬تمنع‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬صرخة‭ ‬تطلقها‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬تضامنا‭ ‬مع‭ ‬الضحية،‭ ‬وأن‭ ‬تحرم‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬شحنة‭ ‬غضب‭ ‬تسكن‭ ‬الضلوع،‭ ‬وأن‭ ‬تحبس‭ ‬أنفاسك‭ ‬أو‭ ‬تعد‭ ‬أنفاسك‭ ‬تنصتا‭ ‬على‭ ‬هاتفك،‭ ‬وعلى‭ ‬بيتك،‭ ‬وعلى‭ ‬خواطرك،‭ ‬وأن‭ ‬تعيش‭ ‬كالبهيم‭ ‬لتأكل‭ ‬خبزة‭ ‬يلقيها‭ ‬لك‭ ‬المحتل‭ ‬الوطني‭.. ‬أنت‭ ‬فعلا‭ ‬محتل‭ ‬وأنت‭ ‬فعلا‭ ‬ميت‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭.‬


كان‭ ‬وائل‭ ‬الدحدوح‭ ‬مراسل‭ ‬الجزيرة‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬طفلته‭ ‬الشهيدة،‭ ‬وتعلو‭ ‬جبهته‭ ‬أتربة‭ ‬البناية‭ ‬التي‭ ‬أسقطها‭ ‬العدو‭ ‬على‭ ‬أسرته‭ ‬قد‭ ‬قال‭ ‬من‭ ‬أعماقه‭ ‬‮‬"معلش‬"،‭ ‬تلك‭ ‬الحروف‭ ‬الأربعة‭ ‬كانت‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأناشيد‭ ‬الجنائزية‭ ‬التي‭ ‬احتفظ‭ ‬بها‭ ‬التاريخ‭ ‬فوق‭ ‬صفحاته‭.‬


وائل الدحدوح‭ ‬لا يزال‭ ‬قابضا‭ ‬على‭ ‬سترته‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنج‭ ‬أطفاله‭ ‬وزوجته‭ ‬وأبناءه،‭ ‬ويخرج‭ ‬علينا‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬فى‭ ‬بئر‭ ‬اليأس‭ ‬والعزلة‭ ‬ورهبة‭ ‬الفراق‭ ‬ولوعة‭ ‬البعد،‭ ‬لا يزال‭ ‬وائل‭ ‬في‭ ‬ناحية‭ ‬ينقل‭ ‬لنا‭ ‬تفاصيل‭ ‬مجازر‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬عمق‭ ‬تأثيرها،‭ ‬وعلى‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬يشاركه‭ ‬مؤمن المشرافى‭ ‬نفس‭ ‬تفاصيل‭ ‬القصة‭ ‬الحزينة‭.‬

المحتل الوطني


وهناك‭ ‬وفي‭ ‬قلب‭ ‬عواصم‭ ‬العرب‭ ‬ليال‭ ‬ساهرة‭ ‬تقام‭ ‬ومهرجانات‭ ‬يرقص‭ ‬على‭ ‬أنغامها‭ ‬رجال‭ ‬ببدلات‭ ‬رقص‭ ‬مغرية‭ ‬ومثيرة‭ ‬وكاشفة،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬أحدهم‭ ‬علينا‭ ‬ليندد‭ ‬ويولول‭ ‬ويحكي‭ ‬لنا‭ ‬أساطير‭ ‬اتصالاته‭ ‬وملاحم‭ ‬تحذيراته،‭ ‬وبطولات‭ ‬تهديداته‭ ‬وقليل‭ ‬من‭ ‬حكمته‭ ‬النادرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬بها‭ ‬غيره‭.‬


وعلى‭ ‬خلفية‭ ‬صورة‭ ‬المنقذين‭ ‬يحاول‭ ‬أبطال‭ ‬الدفاع‭ ‬المدنى‭ ‬إخراج‭ ‬شاب‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الركام،‭ ‬وهم‭ ‬يحذرونه‭ ‬بألا‭ ‬يتحرك،‭ ‬وصوت‭ ‬الشاب‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬البيت‭ ‬المقصوف..‭ ‬والله‭ ‬ما‭ ‬بخاف‭ ‬يا‭ ‬ناس‭ ‬من‭ ‬الموت‭.. ‬درس‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬نحكي‭ ‬عن‭ ‬عجزهم‭ ‬ونروي‭ ‬تفاصيل‭ ‬معاناتهم‭..‬ إننا‭ ‬نحن‭ ‬العاجزون‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬من‭ ‬قش‭ ‬وإننا‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬يعانون‭ ‬سمنة‭ ‬البهائم‭.‬


أنتظر‭ ‬وائل الدحدوح‭ ‬ومؤمن المشرافى كل‭ ‬ليلة‭ ‬وكل‭ ‬صباح،‭ ‬وأتابع‭ ‬تلك‭ ‬الصلابة‭ ‬والقوة‭ ‬والإرادة،‭‬‭ ‬لا‭ ‬أنصت‭ ‬كثيرا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقولون‭ ‬فكل‭ ‬الحكايات‭ ‬متشابهة،‭ ‬موت‭ ‬يتابعه‭ ‬موت،‭ ‬وقصف‭ ‬يتلوه‭ ‬قصف،‭ ‬وأطفال‭ ‬يلحقون‭ ‬بأطفال،‭ ‬ونساء‭ ‬لا‭ ‬يجدن‭ ‬مروءة‭ ‬عربية‭ ‬قرأنا‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬الخيالية‭..‬ فقط‭ ‬أتابع‭ ‬قسمات‭ ‬وجهيهما‭ ‬وأبكي‭.‬


ولأني‭ ‬محاصر‭ ‬أكثر‭ ‬منهم،‭ ‬ولأني‭ ‬كيان‭ ‬محتل‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬يقصفه‭ ‬قصفة‭ ‬واحدة‭ ‬فيريحه‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الأذلاء،‭ ‬أبكي‭ ‬عوضا‭ ‬عنهما..‭ ‬أبكي‭ ‬بدلا‭ ‬منهما،‭ ‬فاليد‭ ‬مغلولة،‭ ‬والقيد‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬أقسى‭ ‬وأمر،‭ ‬والسجن‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬سور‭ ‬حول‭ ‬الوطن،‭ ‬وعسس‭ ‬يسكنون‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬وجيوش‭ ‬على‭ ‬شعوبها‭ ‬تتسيد‭ ‬وتمارس‭ ‬القهر‭ ‬الوطني‭.‬


أبكي‭ ‬عوضا‭ ‬عن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬رفاهية‭ ‬البكاء‭..‬ أبكي‭ ‬بدلا‭ ‬منهم،‭ ‬فبعضهم‭ ‬يقاتل،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يناضل،‭ ‬وبعضهم‭ ‬مشغول‭ ‬بالغارة‭ ‬القادمة،‭ ‬وبعضهم‭ ‬منهمك‭ ‬في‭ ‬دفن‭ ‬بعضهم،‭ ‬وبعضهم‭ ‬منهمك‭ ‬في‭ ‬لملمة‭ ‬بقايا‭ ‬صور‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭ ‬كادت‭ ‬تضيع‭ ‬تحت‭ ‬القصف،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يسند‭ ‬بعضهم‭..‬ لا‭ ‬وقت‭ ‬لديهم‭ ‬للبكاء‭ ‬ولا‭ ‬وقت‭ ‬لدينا‭ ‬إلا‭ ‬للبكاء‭.‬

 


أبكي‭ ‬بكاء‭ ‬المحبوسين‭ ‬في‭ ‬ذواتهم،‭ ‬بكاء‭ ‬العاجزين‭ ‬في‭ ‬بيوتهم،‭ ‬بكاء‭ ‬المقهورين‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭..‬ أبكي‭ ‬وقد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬اليقين‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭..‬لا‭ ‬تحرير‭ ‬لفلسطين‭ ‬من‭ ‬محتل‭ ‬صهيوني‭ ‬قبل‭ ‬تحرير‭ ‬الوطن‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬المحتل‭ ‬الوطني‭!

الجريدة الرسمية