رئيس التحرير
عصام كامل

قهر الرجال


عندما يُضطرُّ أستاذٌ جامعىٌّ "في الخدمة" إلى العمل سائقًا، أو يعملُ مُوجِّهٌ بالتربية والتعليم "متقاعد" على "توك توك"؛ لتدبير احتياجاتهما العائلية، فنحنُ- إذن- لسنا بخير!!


دعكَ من ترديد شعاراتٍ واهيةٍ من نوعية: "الشغل مش عيب"، و"أحسن ما يمد إيده"، فهذا الموضعُ ليسَ محلَّهما، وإنما هو هروبٌ ماكرٌ من الواقع، وعدمُ اعترافٍ بالمسئولية.

بادئ ذى بدء.. هل سألتَ نفسَكَ: ما الذي دفعهما إلى التغاضى عن الوضع الاجتماعى، وعن السن المُتقدمة، ومزاولة مهنةٍ شاقةٍ، لا تناسبهما، وسوف يتعرضان خلالها لسخافاتٍ لا حصرَ لها؟

الإجابة: بكل تأكيد.. لا شيء سوى حاجتهما للمال "الحلال"، لسد احتياجاتهما العائلية، بعدما فشلا بعد سنواتٍ طويلةٍ من "العمل الشريف"، في تدبير ما يكفيهما، عندما يتقدمُ بهما العمر.

أمَّا السؤالُ الثانى فهو: هل تعلمون ما تموجُ به نفسُ الأستاذ الجامعى، أو المُعلم المُتقاعد، عندما يقهرهُما وطنُهما إلى هذا الحدِّ، ولم يحترمْ رحلة عطائهما في خدمة العلم؟

الإجابة بالتأكيد: ليستْ على ما يُرام في كل الأحوال.

أمَّا السؤالُ الثالثُ فهو خاصٌ لأصحاب الشعارات الزائفة والكاذبة وهو: هل أنتم مُستعدون لخوض مُغامرة مماثلة؟

والإجابة "غالبًا" سوف تكون بالنفى!!

ما لا شكَّ فيه، أنَّ هذا الأستاذَ وذاكَ المُعلمَ، ليسا بدعًا أو استثناءً، بل إنَّ هناك نماذجَ أكثرَ مأساوية، يعيشُ أصحابُها في غربة داخل وطن، لا يشعرُ بأمثالهم، ولا يُقيمُ لهم وزنًا.

إذا حملتك قدماكَ ذاتَ صباح إلى أطراف المدينة، أو إحدى المناطق الشعبية، فسوفَ تلمحُ أشباحًا من البشر، جرى تسميتُهم "عمال التراحيل" يحملُ كلُّ منهم أدواته، مُترقبًا من يطلب خدماته، مقابلَ جنيهات زهيدة، وقد يمرُّ اليومُ والأسبوعُ، دونَ أن يعملَ، ودون أن يأكلَ، ودون أن يُرسلَ لأسرته في أعماق الصعيد "غالبًا" ما تُقيم به أصلابها.

هل رأيتم قسوة المرافقة بين أستاذ الجامعة والمعلم من ناحيةٍ، وعمال التراحيل من ناحيةٍ ثانيةٍ؟

إحصائياتُ الفقر، الصادرة مؤخرًا عن جهاتٍ رسميةٍ غير مُغرضة، كاشفة ودالة وفاضحة، عما تعانيه قطاعاتٌ كبيرة من المصريين، لم يصلهم قطار الإصلاح الاقتصادى بعدُ، ولن يصلَهم، رغمَ أنَّ قطاعاتٍ أخرى استفادتْ وتستفيدُ وسوف تستفيدُ وتعلمُ كيف تستفيدُ!

لا يزالُ هناك مُهمَّشونَ في هذا الوطن، من أستاذ الجامعة، وحتى عامل التراحيل، يسكنهم يقينٌ بأنَّ وطنهم يتعاملُ معهم بغرورٍ واستعلاءٍ، لا يفكرُ فيهم ولا يأبهُ بهم، ولا يضعُهم ضمن أولوياته، ولا يدرجهم ضمن خططه ومشروعاته.

ينبغى أن نخجلَ من الحديث عن "العدالة الاجتماعية" ومشتقاتها ومرادفاتها، وبيننا "رجالٌ مقهورون" بسلاح "لقمة العيش"، وهل هناك أسوأ من قهر الرجال؟ وهل هناك قهرٌ أصعبُ من ذلك؟

أيةُ نفسٍ "سويَّةٍ" تتألمُ حتمًا عندما تُبصرُ ستينيًا أو سبعينيًا أو ثمانينيًا يقاوم الحياة على هذا النحو المُهين؛ حتى يسدَّ رمقَه أو يسترَ جسدَه أو يداوىَ سقمَه، أو يُزوِّجُ ابنته، إنه المشهدُ الأكثرُ قسوةً والأدنى إنسانيةً، الذي يصدمُنا يوميًا، ويعكسُ إلى أي حضيضٍ هبطنا.

عمرُ بنُ الخطَّابِ – رضى اللهُ عنه- رغمَ ما كانَ بهِ منْ صلابةٍ، رقَّ قلبُه عندما وجدَ يهوديًا مُسنًَّا وضريرًا يطلبُ الصدقةَ، فأسقطَ عنه وعن أمثالِه الجزية، وأمرَ لهم براتبٍ مُنتظمٍ منْ بيتِ المالِ، وقالَ قولتَه التي تعكسُ جوهرَ الإسلامِ: " فواللهِ ما أنصفناهُ إذا أكلنا شبيبتَه ثمَّ نخذلُه عند الهِرَمِ"، فارحموا كبارَنا ومشايخَنا ومن تقدم بهم العمرُ؛ وتكفلوا بهم، وخصصوا لهم جانبًا من المال المهدور، يمينًا ويسارًا، فكلُّ صغيرٍ سوفَ يكبرُ، والأيامُ دوَّارةُ، وكما تدينُ تُدانُ.
الجريدة الرسمية