يتكرر منذ 10 سنوات وشارك فيه 1500 صائم.. حكاية الإفطار الجماعي في المطرية
على إحدى عتبات منزل بائعة الخضراوات بـ"عزبة حمادة" في حي المطرية بالقاهرة، نفضت "أم صابرين" 80 عاما الغبار عن الوسادة البالية الملقاة في منتصف الطريق، جلست تتابع بنهم ما يدور من أحاديث جانبية بين أم محمد وجارتها عن "عزومة" الخميس الماضي، ما تركته من أمارات على أصابعهن وأيديهن، "العزومة كانت مولد واخدة الشارع كله، أنا يومها موقفتش أكل محاشي وبسبوسة وكنافة وفاكهة"، تداعبها إحدى الجالسات قائلة، "إحنا إيدينا اتبهدلت من الباذنجان وإنتي يا حاجة أكلتي على الجاهز"، أربعة أيام لم تكن كافية لمحو أثر هذا اليوم من ذاكرة سيدات الحارة.
مساء الخميس الماضي، تناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، صورا لحفل إفطار أسطوري بعزبة حمادة بمنطقة المطرية، تحف حضوره ألوان الزينة والمصابيح، وتعلو وجوههم الضحكات، وهم يتبادلون التحية والتهاني: "إحنا هنا شباب وسيدات العزبة كلهم كانوا على قلب رجل واحد علشان العزومة تخرج بالشكل اللي كل الناس شافته على فيس بوك الخميس الماضي".. يتحدث أحد أبناء العزبة ممن شاركوا في إعداد حفل إفطار الخامس عشر من رمضان.
فجر الأربعاء الماضي استيقظت "أم محمد" الستينية التي تزوجت في العزبة منذ نحو أربعين عاما وقضت عمرا كاملا بين جنباتها، على وقع طرقات جارتها ابنة محافظة أسيوط "أم أحمد"، تخبرها أنها أحضرت الكمية المتفق عليها سلفا لإحضار فطور العام الحالي، كما اعتادنا منذ أكثر من عشر سنوات، "الشباب أحضروا لنا 100 كيلو باذنجان و80 كوسة، وشوالين أرز وقالوا لنا شدوا حيلكم معانا كده علشان الكمية السنة دي أكبر من السنة اللي فاتت".
أكثر من 8 سيدات قسمن أنفسهن على خمسة مطابخ بخمسة منازل مختلفة، كل سيدة لها نصيبها من كمية المحشي التي تتولى مهام حشوها وطهيها: "كنا بنكتب على كل حلة اسم صاحبتها علشان مننساش حد أو نتلغبط".
بينما كانت السيدات يحضرن الطعام في المطابخ وأمام المنازل، وُزعت مهام تحضير المائدة العملاقة على شباب المنطقة، لكل شاب مهمة أوكلت له سلفا منذ التحضير لحفل الإفطار في مطلع شهر رجب الماضي، في الوقت الذي يحرص فيه سيد وإيهاب وغيرهم من شباب الحارة على جمع الأموال التي يتشارك بها كل شخص حسب قدرته المادية وما تجود به نفسه، "إحنا بنقسم الأدوار علينا حد مختص بشراء الدجاج اللي قارب على 300 دجاجة السنة دي، وكذلك اللحمة، أما الخضار والفاكهة فلها شخص آخر يذهب لسوق العبور ويشتري جميع اللوازم، أما مهام تجهيز الموائد والفراشة فهي مهمة أحمد عاطف صاحب محل الفراشة في مدخل الحارة"، بينما يتولى الصيدلي "علاء فريد" الذي يهوى فنون التصوير الفوتوغرافي، مهام توثيق أحداث هذا اليوم.
كخلية نحل بدأ العمل في حارة حمادة قبيل أذان مغرب الخميس الماضي، الحضور هذا العام ازداد عددهم لأكثر من 500 فرد عن العام الماضي: " الناس افتكرت أن اللي بيجي 15 رمضان يفطر من العزبة فقط، لا أصحابنا من بره بييجوا وقرايبنا ومعارفنا، حتى أصحابنا اللي كانوا هنا واتجوزوا ومشيوا"، يتحدث سيد فتحي الموظف بإحدى شركات الاتصالات، أحد أبناء العزبة المشاركين والقائمين على المشروع برمته، مؤكدا أن القائمين على إخراج اليوم على هذه الشاكلة بداية من دفع مصروفات الحفل الذي بلغ هذا العام نحو 60 ألف جنيه، حتى لحظة إحضاره للتناول، هم سكان العزبة، أما العزيمة ذاتها فتضم الغريب والقريب والأصدقاء القدامى.
البداية كانت من صالون حلاقة "التركي" القائم بإحدى العطفات الجانبية لعزبة حمادة، ففي رمضان عام 2009 قرر مصطفى عزت وأحمد عاطف وسيد فتحي وبقية الأصدقاء أن يجتمعوا قبيل أذان المغرب لتناول وجبة الفطور معا، اتخذوا مائدة الصالون الصغيرة لوضع الوجبات فوقها، طاجن بامية ومكرونة بالبشاميل وأرز كان كل ما تحويه المائدة، التفتت أنظار المارة لهذا المشهد الذي توقف عنده الوقت للحظات، حينما لمعت الفكرة في ذهن البعض أن يتطور الأمر ويزداد العدد، لتنتقل عزومة 15 رمضان من صالون الحلاقة الصغير، لمحل الترزي المجاور له، وسنة تلو الأخرى ارتفع عدد الحضور من عشرة لخمسين، "وقتها قلت نعمله في بيتي لكن كمان الناس تزايدت"، يتحدث مصطفى عزت.
اقتصار الأمر على منزل مصطفى لم يكن بالأمر الجيد أيضا، مع التزايد المطرد في عدد الحضور، الذي لم يعد يقتصر على أبناء الحارة فحسب، حيث تضاعف العدد من 300 إلى 600 ثم 900، حتى وصل إلى 1500 هذا العام، يقول إيهاب مدير بإحدى شركات الأغذية، أحد منظمي حفل الإفطار: "لقينا أصحابنا القدامى اللي تزوجوا وخرجوا بره بييجوا، قررنا نكبر الموضوع، ونعزز روح الإخوة بين أهل المنطقة والتعاون، فقولنا علشان اللي في البيت ينزل ياكل والست والأم يشاركوا كمان، الستات كانوا هما اللي بيتصلوا بينا يقولوا لنا عايزين نشارك في العزومة معاكوا، بيصحوا من الفجر يشتروا الحاجة وتاني يوم تلاقي كل الأكل جاهز على الفطار، كنت أنزل شغلي الساعة سبعة صباحا وسايب أمهاتنا بيشتغلوا، أرجع على العصر ألاقيهم لسه شغالين بشكل متواصل دون كلل أو تعب".
الرباط المقدس الذي يجمع بين أبناء عزبة حمادة، لم يسمح للارتفاع الجنوني في أسعار السلع خلال العامين الماضي والحالي، أن يعكر صفو لمتهم كل عام في منتصف شهر رمضان، "أكثر شيء كان مأثر معنا بجانب ارتفاع الأعداد باستمرار من عام لآخر، كان ارتفاع الأسعار من السنة اللي فاتت، يعني مثلا بعد ما كنا ندفع ألف جنيه اضطرينا ندفع 4000 و5000، لكن النية الجميلة لعمل الخير بين أهل منطقنا دفع الشباب أن اللي كان بيدفع 200 بقى يدفع 300 و400 بنتجمع في محل أحمد عاطف وكل حد من أهالينا في العزبة بييجي عليه يدفع اللي يقدر عليه بداية من مطلع رجب بنبدأ نجهز للعزومة اللي بتكون 15 رمضان، نشوف هنكبرها إزاي الناس اللي هتيجي هنعمل إيه ونقسم المهام والشغل، فيه ناس بتدفع مرة واحدة وناس تدفع على مدار الـ3 شهور"، يتابع إيهاب، بينما يصطف جنود معركة الحفل حوله، يلتقط أحدهم خيط الحديث قائلا، "إحنا مش عايزين تبرعات من حد ولا منتظرين ده، كل همنا أننا نكون سبب لأن ناس تانية تقلدنا وتعزز روح الإخوة بين بعضها البعض.