حكايات مصرية من غانا
خمسة أيام قضيناها في غانا بلاد المناضل الأفريقى كوامى نيكروما، ولد يوم سبت فأطلق عليه اسم كوامى، والحق باسمه نكروما نسبة إلى قريته نكرو، وقد ولد لأبوين بسيطين، الأب يعمل بمهنة الحدادة والأم تعمل بالتجارة، أراد له والده مستقبلا مغايرا لما يحياه، فوفر له من الإمكانيات ما يجعله قادرا على إكمال دراسة الماجستير والدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية، ذهب إلى بلاد الحرية طالبا العلم، فوجد في طريقه قمما من العنصرية، ظل يحاول أن ينال منها المساحة الإيجابية التي آمن بها طوال حياته، فاصطدم بواقع مرير.
ذات يوم سأل الطالب الأفريقي الغانى كوامي نكروما أحد الأمريكيين عن مكان يمكنه أن يشرب منه الماء، أشار الأمريكي إلى مكان تشرب منه الحيوانات، انتفض الشاب الأفريقي وبدأ طريق النضال، لم تسيطر عليه نزعات الكراهية، فقرر بعد انتهاء دراسته أن يودع تمثال الحرية قائلا: لقد منحتموني معنى الحرية، سأعود حاملا مشاعلها إلى بلادى، عاد نكروما إلى «ساحل الذهب» كما كان يطلق عليها قبل أن يتم تغيير الاسم إلى غانا، التي تعني بلغة السونينك "المحارب الملك".
بدأ نكروما طريقه النضالي بشعار النضال الإيجابى، وما بين الاعتقالات المتكررة والإفراج عنه، قاد بلاده إلى التحرر، منطلقا من شعارات ثلاثة: أولها: أن تحقيق السيادة السياسية يحقق كل شيء بعد ذلك، وثانيها: أن الشعب الغاني يفضل المخاطر في ظل الحرية على الاستقرار في ظل العبودية، وثالثها: أن تخلص أفريقيا من قيود الحكم الأجنبي هو الضمان الوحيد للاستقلال.
هكذا خاض كوامي نكروما حربا ضارية ضد الاستعمار في القارة السمراء، كما حارب وبضراوة النزعات العرقية والإقليمية حتى حرر بلاده، ومن ثم قاد مع جمال عبد الناصر ونخبة من المناضلين الأفارقة حركة التحرر في أفريقيا كلها، تعرض نكروما لأكثر من خمس محاولات اغتيال، لم تنجح واحدة، فاستطاع الاستعمار الذي استهدفه طوال حياته أن يذكي انقلابا عسكريا ضده، أثناء وجوده في زيارة إلى الصين، فعاد إلى غينيا التي كان يحكمها في ذلك الوقت أحمد سيكوتورى، الذي قرر أن يكون نكروما شريكه رمزيا في حكم بلاده.
بعد ست ساعات من الطيران المباشر على خطوطنا الوطنية، وصلنا إلى مطار أكرا الدولى، العرض على الحجر الصحي ضرورة طبية لاستعراض بطاقتك الصحية، وما إذا كنت قد حصلت في بلادك على التطعيمات الضرورية من عدمه، عشرون دولارا هي ثمن التطعيمات إن لم تكن حصلت عليها قبل الوصول، موظفو الحجر الصحي، رجال الأمن، ضباط الجوازات بشوشون مرحبون ودودون إلى أقصى درجة.
بمجرد أن يتعرف الضابط المسئول على جنسيتك لا تندهش إن قال لك: أهلا بالمصريين أخوالنا.. نعم الشعب الغانى يحمل للسيدة المصرية فتحية رزق تقديرا ومحبة وهي مسيحية مصرية من أسرة عريقة التقاها الزعيم الأفريقي مصادفة أثناء زيارته للقاهرة عام ١٩٥٨م، وأراد الزواج منها، غير أن أمها رفضت هذا الزواج، حتى تدخل الرئيس جمال عبد الناصر لدى الأم، وأقنعها أن مصر ستفتح سفارة لها في غانا مع خط طيران مباشر، يمكنها من زيارة ابنتها في أي وقت، فكان الزواج المصرى الغاني، وعلى أثره احتلت فتحية مكانة كبيرة في قلوب الغانيين.
كان منحنى العناق المصرى الغانى أيام نكروما- ناصر مذهلا، نستطيع أن تتعرف عليه من خلال كلمة الترحيب التي ألقاها عبد الناصر في حضور نكروما، أثناء زيارته لمصر في الخامس عشر من يونيو عام ١٩٥٨م، وهي الزيارة التي خطب فيها فتحية عندما قال عبد الناصر:
أيها السادة
"إنها فرصة سعيدة التي يزورنا فيها الدكتور "نكروما" - رئيس وزراء غانا- وزملاؤه، فغانا تعبير عن انتصار الدول الأفريقية، كما هي أيضًا تمثل الأمل الذي تنظر إليه أفريقيا التي كافحت وناضلت من أجل الحصول على حقها وعلى استقلالها.
والدكتور "نكروما" -رئيس وزراء غانا- يمثل الزعامة الوطنية التي كافحت من أجل استقلال بلادها؛ فحصلت على هذا الاستقلال.. الزعامة الوطنية التي صممت على أن تحقق لأبناء وطنها حقها في الحرية، وفى المساواة؛ فاستطاعت أن تحصل على ذلك. إن هذه الزعامة.. هذه القيادة هي المثل الذي تنظر إليه أفريقيا التي تريد أن تسعى لتتحرر، كما تنظر إليه الدول التي تهدف إلى تحقيق حقها في الحرية وتقرير المصير.
إن معنى التقاء الدكتور "نكروما" زعيم غانا وقادة غانا بنا هنا في هذا المكان، وفى هذا اليوم معنى كبير؛ إنه يمثل النهضة الأفريقية، إنه يمثل الحرية والعزة والثقة بالنفس.
إن أفريقيا اليوم تجتاز مرحلة تعتبر من المراحل الفاصلة في تاريخها، ولهذا حينما تلتقي غانا مع الجمهورية العربية المتحدة، وكل منها تعتنق المبادئ السامية في الحرية والاستقلال، وفى تقرير المصير والمساواة بين الشعوب، إنما نشعر أن أفريقيا كلها في سبيلها إلى تحقيق حقها في حريتها واستقلالها وفى تقرير مصيرها.
إن المثل الذي ضربته غانا ونالت استقلالها إنما هو مثل نعتز به كل الاعتزاز، إن كفاح غانا إنما هو مثل تعتز به الدول الأفريقية. إن غانا تعتبر بلد عزيزة علينا؛ لأنها الدولة الأفريقية الجديدة التي ولدت منذ أكثر قليلًا من عام، واستطاعت في هذا الوقت القصير أن تسير وتبنى نفسها وتؤكد استقلالها وتؤكد سيادتها، وتؤكد أيضًا أن أفريقيا في طريقها إلى الاستقلال؛ ففى هذا العام- في هذا الوقت القصير- عقد في أكرا عاصمة غانا المؤتمر الأفريقى الذي جمع الدول الأفريقية المستقلة، وخرج هذا المؤتمر بقرارات لها تأثير كبير على سير الحياة في هذه القارة، وفى هذه المنطقة من العالم؛ لأنها قرارات تنبع من ضمير قارة أفريقيا، حق الشعوب في تقرير مصيرها، حق الشعوب في استقلالها، حق الشعوب في حريتها، تأكيد مبادئ باندونج؛ هذا هو المعنى وهذا هو الشعور الذي أحس به اليوم".
الإجراءات في مطار أكرا الدولى بسيطة، وسرعان ما تصل إلى وحدة الجمارك التي تمارس عملها بنفس البساطة، المسافة بين الفندق الذي أقمنا فيه والمطار بضعة كيلومترات، الفندق بسيط، منمق، وكل العاملين فيه من الشباب الغانى، ابتاعني عامل نقل الحقائب للغرف عشرين جنيها مصريا "بخمسة سيدي" وهي العملة الغانية المحلية.
أخذنا قسطا من الراحة، وعلى أثرها بدأنا جدول أعمال الرحلة باستقلال سيارة خاصة إلى شركة إيروجيت، وهي واحدة من كبريات الشركات المصرية صاحبها رجل الأعمال المصري الدكتور سعيد دراز، الذي جاء إلى غانا منذ قرابة السنوات العشر، ليصبح واحدا من أهم رجال الأعمال المصريين، حيث يحظي بثقة صانع القرار الاقتصادي والسياسي، وتربطه علاقات طيبة بعدد من أعضاء البرلمان الغاني.
ملامح الغانيين لم تختلط بألوان أخرى، ظلت على عهدها سمرة داكنة مع ابتسامة تكاد تكون معهودة، ترتسم على وجوه الجميع في الشوارع، والحوارى، والقرى، علامات الرضا أهم مايميز الوجه الغانى، سكرتيرة غانية ممشوقة القوام، مهندمة الثياب رتبت لنا الموعد فالتقينا الدكتور سعيد دراز.
سألته عن سبب وجوده بغانا، فقال: عملت في عدة دول أوروبية حتى كان موعدى مع غانا التي تربطنا بها علاقات مميزة، حيث شهد الوجود المصري علوا كبيرا في فترة الستينيات، بالإضافة إلى أن غانا من البلاد الواعدة استثماريا، ولا تزال أرضا بكرا قابلة للنمو بشكل متسارع، إضافة إلى أن الرصيد المصري بغانا يجعل الفرصة مواتية لرجال الأعمال المصريين، وأشار إلى وجود أسماء كبرى بالسوق الغانى من أمثال منصور الذي يعد وكيل "كاتربلر" في أفريقيا، والسويدى الذي حصل على جملة أعمال مهمة في السوق الغانى.
غانا مفتاح الوصول إلى ٣٥٠ مليون أفريقي هم جملة سكان تجمع "أكواس" .. هكذا بدأ سعيد دراز حديثه معللا وجوده في بلاد الذهب والتحرر، وصاحبة التجربة الديمقراطية الواعدة، حيث يتنافس حزبان كبيران على الحكم في واحدة من أكثر تجارب أفريقيا السياسية استقرارا، والتي استطاعت أن تجتذب استثمارات صينية وتركية وإسرائيلية كبيرة في السنوات القليلة الماضية، وقدمت نموذجا يحتذى في حوافز الاستثمار، في رؤية ليبرالية حقيقية تجعل منها أرضا خصبة لاستثمارات واعدة، تنطلق بسرعة كبيرة بالقياس لما يدور حولها من محاولات أفريقية للخروج إلى النور وتبوأ مكانة تليق بأفريقيا .. ربما كانت هذه أسباب منطقية لتواجد مستثمر مصري استطاع خلال فترة وجيزة أن يكون شريكا مهما في المشروع الصحي القومى لشعب غانا.
الأيدي العاملة متوفرة ورخيصة، ولا تحتاج سوى التأهيل وسط أجواء رسمية مشجعة للغاية، وقادرة على استيعاب متطلبات العصر، حيث تشهد البلاد حركة بناء كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، مع توافر إرادة وطنية للعبور إلى مناطق أكثر رحابة، لتشجيع القطاع الخاص وفق خطة إستراتيجية واضحة المعالم.
وتعمل إيروجيت في عدة مجالات، يأتى على رأسها مشاركتها بمشروعات صحية تمويلية وتنفيذية في ثلاث مناطق، لإنشاء تسع مستشفيات كبرى على أحدث طراز، يأتي في مقدمتها مستشفى كوماسي العسكري بطاقة ٥٠٠ سرير، والمستشفى الإقليمي بكوماسي بطاقة ٢٥٠ سريرا، إضافة إلى مستشفى تيبا بطاقة ٦٠ سريرا.
أما المنطقة الثانية فهي تضم ثلاث مستشفيات آخر: الأول مستشفى تويفو براسو ويضم ٦٠ سريرا، ومستشفى المدينة ويضم ١٠٠ سرير، ومستشفى كونجو ويضم ٦٠ سريرا، إضافة إلى المنطقة الثالثة التي تضم ثلاث مستشفيات أيضا: الأول المستشفى الإقليمي "وا" ويضم ١٦٠ سريرا، ومستشفى سالاغا ويضم ٦٠ سريرا، ومستشفى نسوكاو ويضم ٦٠ سريرا.
ولا يتوقف نشاط إيروجيت عند المشاركة الكبري في المشروع الصحي القومي لغانا، بل يمتد إلى واحدة من أهم الصناعات في العالم، حيث أقامت المجموعة ثانى أكبر مصفاة للذهب في أفريقيا، والخامسة على مستوى العالم بطاقة إنتاجية أولية ١٠٠ طن مترى من الذهب بدرجة نقاوة "٩٩٩.٩٩٪" إضافة إلى ٢٠ طن مشغولات ذهبية، وتهدف المصفاة التي عكف على إقامتها مهندسون مصريون ويديرها مصريون إلى وضع غانا في مكانتها التي تليق بها، باعتبارها أرض الذهب، كما كان اسمها قديما "ساحل الذهب".
وتخطط إيروحيت لتعزيز صناعة الذهب، وتحويل غانا إلى قبلة لفن المشغولات الذهبية، بالإضافة إلى إمكانية تصفية المنتج من دول أخرى بغرب أفريقيا، خاصة وأنها حظيت بإمكانيات تقنية ألمانية وإيطالية على درجة عالية من الجودة.
قمنا بزيارة هذا الصرح المصري الشامخ، واطلعنا على كل عمليات التصفية والتقنيات الدقيقة في هذه الصناعة المهمة، والتي تم اختيار موقع إستراتيجي لها على مقربة من مطار كيا - أكرا الدولى، ويقع تحت حراسة مشددة من قبل السلطات الغانية، ويديره عدد من الشباب المصريين، إضافة إلى خبرات دولية صاحبة سجل كبير في هذا المجال.
عماد دراز المدير التنفيذي لمجموعة إيروجيت يقول: إن مشروع مصفاة ساحل الذهب تم التخطيط له بعناية، ليصبح واحدا من أهم مشروعات الذهب في العالم، حيث حظينا بدعم الحكومة الغانية التي أولت المشروع اهتماما خاصا، وذللت العقبات أمامنا ليصبح ثاني أكبر مصفاة للذهب في أفريقيا، بعد مصفاة جنوب أفريقيا، وأضاف: سنشرع في إقامة مول كبير على مقربة من المصفاة، لإنشاء معرض دائم لفنون المجوهرات، وليصبح واحدا من أهم المعارض الدائمة لصناعة المشغولات الذهبية في أفريقيا.
ويبقى أن نقول إن الوجود المصرى في غانا لا يحتاج إلا إلى رجال أعمال يؤمنون أن حجم التأثير المصري لايزال قويا، شريطة أن نتواجد بشكل أكبر، خاصة وأن رجال الأعمال الإسرائيليين منتشرون في كل مكان، ويقلقهم الوجود المصري الذي يحظى بالرضا، نتيجة لعلاقات تاريخية مهمة، استطاعت مصر أن تبنيها قبل الخروج من أفريقيا في عصر مبارك، الذي أعطى ظهره للقارة السمراء فكان ماكان.