رئيس التحرير
عصام كامل

زجاجة الصمغ!


في بداية الستينيات من القرن الماضي، كنت طالبًا في كلية العلوم بجامعة أسيوط، يحدونى الأمل في مستقبل مشرق جميل.. ومنذ اليوم الأول، كنت اتطلع إلى التفوق، حتى أنال شرف التعيين كمعيد بالكلية، أو أجد الوظيفة اللائقة التي تحقق آمالي وأحلامي في حياة حرة كريمة.. لذا لم أكن أتأخر عن محاضرة، ولا التركيز والانتباه أثناء الشرح حتى الدقائق الأخيرة، ولا أجد حرجًا في السؤال والاستفسار من أساتذتي ومحاضريي لمزيد من الفهم..


كان حرصي على الوقت كحرصي على أغلى شيء، فالوقت -كما قيل- هو الحياة.. وفى الليل لم أكن أدخر وسعًا في قضاء الوقت كله في المذاكرة والتحصيل.. سألت صديقًا لى كان يسبقني بعامين: كيف حصلت على درجة امتياز؟ أجابني قائلا: المسألة لا تحتاج سوى زجاجة صمغ صغيرة.. تعجبت للإجابة، وقلت: وما علاقة زجاجة الصمغ بدرجة الامتياز؟ قال: يا صاحبي.. المسألة بسيطة، وهي أنك قبل أن تبدأ المذاكرة، عليك أن تضع قطرة أو قطرتين من الصمغ على كرسى المكتب، ثم تجلس عليه..

المقصود هو أن تلتصق بالكرسي، فلا تتركه حتى تنتهي تمامًا من المذاكرة.. قلت: لكني لا أستطيع المكوث أكثر من ربع ساعة.. رد قائلا: خذ الأمر بالتدريج؛ اليوم نصف ساعة، وغدًا، ثلاثة أرباع ساعة، وبعد غد ساعة كاملة، وهكذا.. في اليوم الأول جلست نصف ساعة، لكني والحق يقال لم أستوعب شيئا مما قرأت..

على الرغم من ذلك، كنت سعيدًا، فقد شعرت أنني حققت شيئًا، وهو الانتصار على الذات.. في اليوم الثاني، جلست ثلاثة أرباع ساعة، وكنت أكثر سعادة، واستطعت من خلالها أن أفهم شيئًا.. في اليوم الثالث، جلست ساعة كاملة، بعدها غمرتني سعادة لا حدود لها، وفي هذه المرة، تمكنت من الفهم العميق لما قرأت.. في اليوم الرابع، أكملت ساعتين، أحسست بعدهما أنني إنسان آخر غير الذي كنت أعرفه.. قدرة على التحدي، واستيعاب لما أذاكره بشكل غير مسبوق..

في نهاية الأسبوع الثاني، صليت العشاء ثم جلست للمذاكرة، ولم أقم من على كرسي المكتب حتى سمعت أذان الفجر، بما يعنى نحو ٨ ساعات.. كانت المواد التي أدرسها هي: "الجيولوجيا، والكيمياء، والرياضيات" بفروعها المختلفة.. وفي نهاية الفصل الدراسي الأول، كانت هذه المواد قد سطرت في عقلي وذاكرتي، أنظر إليها ككتاب مفتوح.. وفي الامتحان لم تكن هناك مشكلة، من أي نوع، بل العكس، كانت الأمور تمضي بمنتهى السهولة واليسر.. وكما كنت متوقعًا، جاءت النتيجة امتياز في كل المواد.. وبعد عامين، تخرجت في الجامعة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.. هذه قصة أسوقها لكل طالب، ناصحًا وموجهًا، أن التفوق يحتاج إلى إصرار ومثابرة وإرادة.. وزجاجة صمغ.. فهل من مجيب؟!
الجريدة الرسمية