رئيس التحرير
عصام كامل

ليديا يؤانس تكتب.. كلبة البيه

 ليديا يؤانس
ليديا يؤانس

رجينا الجميلة ذات العينين السوداويتين البراقتين المُستديرتين، وشعرها الأبيض الطويل الناصع البياض، الذي يتهدل حول جسدها ويُغطي قدميها، مثل الثلج الطازج الذي هطل لِتوه، ولم يختلط بتُراب الشارع أو حتى عادم السيارات.


شعر رجينا يستهويك، في أن تحُدق فيها وخصوصًا، وهي تتحرك أو تجري، فكثافة شعرها ونعومته غير العادية، تأخُذ خيالك إلى البحر أو النهر الصافي، والموجة تجري وراء الموجة، فتزبُد المياه بهذا اللون الأبيض المُثير.

وجه رجينا يُغازلك، فيبدو إليك أنها تضحك لك أنت شخصيًا، وأيضًا وجود بعض الخُصلات السوداء البسيطة التي تتناثر حول وجهها، فتَعمل مُقارنة رائعة بين الأبيض والأسود.

رجينا "Regina" اسم فرنسي بمعنى "الملكة".

رجينا في عرض الطريق الصحراوي، تنبح نباحًا مُرًا، وتعوي بصراخ مُرعب ومزعج، تعترض سير السيارات بشدة، والشيء الغريب أن سائقي السيارات وخاصة النقل الثقيل، لم يتهاونوا مع رجينا والقيام بدهسها، كما يحدث كثيرا في مصر حيث لا شفقة أو رحمة بالحيوان، ربما انشغلوا بمنظر رجينا أو وقفوا لتفسير تصرفاتها الغريبة في وسط الطريق، أنها تقطع الطريق بالعرض جريًا ذهابًا وإيابًا بالنباح والصراخ، لشد الانتباه وتوصيل رسالة!

ركن أحد السائقين سيارته واقترب منها يربت على رأسها وكأنه يسألها عن سبب نباحها، أومأت برأسها في اتجاه الطريق للأمام، أخذها معه في السيارة ليري ماذا تريد، نصف جسدها تقريبا خارج شباك السيارة وعلي بعد نحو 100 متر، بدأت تنبح وقفزت من شباك السيارة قبل أن يقف السائق، وجد سيارة مُصابة في حادث مُروع، تيقن السائق بأن الكلبة مِلكًا لأصحاب السيارة، التي ضربها سائق آخر وفر هاربًا، دون ضمير في أن يطلب حتى الإسعاف لإنقاذ المُصابين.

رجينا كانت ضمن ركاب هذه السيارة المنكوبة، ولكنها نجت بأعجوبة وعملت المُستحيل لإنقاذ أصحابها، الذين تحبهم جدًا وهُمْ أيضا يحبونها جدًا، مُنذ أن اشتراها شاكر بك عندما كان في زيارته الأخيرة لفرنسا مُنذ خمس سنوات.

حضرت سيارات الإسعاف والبوليس، حملوا المُصابين وبدأوا في التحرُك، وبدأت رجينا في الصراخ والعويل مرة أخرى، أنها تُريد أن تركب معهُم ولكنهم منعوها بشدة.

بدأت تُصارع الريح في اللحاق بركب سيارات الإسعاف، إلى أن وصلوا المستشفي، منعوها من الدخول، وأغلقوا الباب، وقفت مُنكسة الرأس بعيون دامعة، تُريد أن تعرف ما أصاب أصحابها، ولكن من سيُعير هذه الكلبة إهتمامًا أو يفتكر بمشاعرها الرقيقة!

الوحيد الذي نجا من الحادث شاكر بك، وأخطروه بموت زوجته وولده وابنته، بكي مصابه الأليم وهو ما زال تحت تأثير المخدر ومُكبل بأقفصة الجبس، وفجأة صرخ فيمن حوله من الأطباء والمُمرضين: أين رجينا؟ هل هي على قيد الحياة؟

لم يوجد أشخاص آخرون بالسيارة يا شاكر بك، رجينا الكلبة بتاعتنا كانت معنا، ذهب أحد السعاة إلى باب المستشفي، بمجرد أن فتح الباب اندفعت رجينا تجري، إلى حيث العنبر الذي به شاكر بك، اقتحمت الحجرة، وبقفزة واحدة، كانت فوق السرير تمسح وجهه بوجهها، مد شاكر بك يده اليسري الطليقة من الجبس ليحتضن رجينا ويربت على رأسها.

عاش شاكر بك حياة سعيدة، يسعد بصحبة رجينا في كل مكان، الخدم والحشم بالقصر يحبون الرجل، لدماثة خلقه وطيبة قلبه، ويحبون رجينا، لأنها تحظي باهتمام بالغ من شاكر بك، وخصوصا بعد الحادث المؤلم للعائلة ونجاتُه ونجاتها، مُعظم وقته مع كتاباته الأدبية ومؤلفاته الروائية، كما يشهد القصر اجتماعات ثقافية كل أسبوع، يحضر الكُتاب والمُثقفون للحوار، وقضاء وقت مُمتع يتخلله المشروبات المُختلفة، كما يحرص شاكر بك على أن يُقدم الطهاة والسفرجية مأدبة عشاء فاخرة للضيوف قبل أن ينصرفوا.

في ذلك اليوم، تكون رجينا في قمة السعادة، تشعر بأن القصر في حالة احتفال، الأضواء في كل مكان، الضيوف يتنقلون هُنا وهُناك، يتكلمون يضحكون يقهقون، وهيَ تتحرك في وسطهم سعيدة، ترفع ذيلها وتهزه شمالًا ويسارًا، تمر بين الضيوف وتُرحب بكل فرد من الضيوف، بأن تمد يدها بالمصافحة للأشخاص، وهم أيضا يصافحونها ويضحكون، رجينا أصبحت مصدر البهجة للقصر وضيوفه والأهم شاكر بك.

في يوم، رجينا تزوم، ودموع في مآقي عينيها، ولا تستطيع أن تقف كالمُعتاد، شاكر بك اتصل بالطبيب البيطري المُعالج، لم يستطع الطبيب أن يُشخص الحالة، حملها وعلي بلاد الخارج للتشخيص والعلاج، للأسف رجينا عندها سرطان في العظام والعلاج مسكنات فقط!

بعد سنتين ماتت رجينا، حزن عليها شاكر بك حزنًا لم يحزنه على أحد، جهز لها مقبرة فاخرة، وضعت مع مقابر العائلة، مُزيلة بعبارات الحب والرثاء ونبذة صغيرة عن حياتها، أرسل للصحف للإعلان عن وفاة رجينا، وأن العزاء سيكون في السرادق الفلاني في يوم كذا.

حضرت الجموع الغفيرة أصدقاء وأحباء شاكر بك، أولًا لدفن رجينا ومواساة شاكر بك لأنهم يعلمون مدى تعلُقه ومحبته لروجينا، ثم جاءوا لسُرادق العزاء الذي امتلأ عن آخره، والناس تقف في الطابور مُنتظرين خروج بعض المُعزيين لكي يدخلوا وياخدوا بخاطر شاكر بك.

عاش شاكر بك ثلاث سنوات بعد وفاة رجينا، لم يعُد مُقبلا على الحياة، زهد الاستمرار في اللقاءات الأدبية والثقافية، التي كان يُنظمها ويستقبل فيها الأصدقاء والأدباء والفنانين.

فجأة ودون أي أعراض مرضية فارق شاكر بك الحياة، الخدم بالقصر اتصلوا بشوكت بك أخو شاكر بك الوحيد وأبلغوه الخبر الحزين.

جهز شوكت بك الإجراءات اللآزمة للدفن، ومكان العزاء كان سُرادقًا ضخمًا فخمًا يليق بشاكر بك، وقف شوكت بك ونفر قليل من العائلة، وطبعًا الخدم والحشم بالقصر، لتلقي العزاء في سعادة البيه شاكر بك.

السُرادق تقريبا فاضي، كل الناس تقريبا علمت بموت شاكر بك لأن أخيه أعلن جيدًا عن وفاته، في الصحف المحلية والأجنبية وبالتليفونات، ولكن ما زال السُرادق خاليًا، عدد المُعزيين تستطيع عدهُمْ بنظرة واحدة!

بالتأكيد الناس لم يحبوا رجينا أكثر من شاكر بك..
ولم يستفيدوا من رجينا أكثر من شاكر بك..
وأيضًا الناس اللي كانوا موجودين أيام موت كلبة البيه، هُمْ تقريبا نفس الناس اللي موجودين أثناء موت البيه..

ولكن سُرادق كلبة البيه كان ملئانًا عن آخره..
وسرادق سعادة البيه كان فارغا تقريبا بالكامل..

ليس المُشكلة في كلبة البيه.. أو المُشكلة في سعادة البيه.. ولكن المُشكلة في الناس!

الناس أصبحوا مُرائين، يُقدمون مجاملات ليست نابعة عن صدق ومحبة واخلاص حقيقي!

الناس كانوا يجاملون سعادة البيه، لآنه ما زال حيًا، ومُمكن الاستفادة منه بصورة أو أخرى، وبغض النظر عن محبتهم له أم لا، وبغض النظر عن صدق المشاعر سواء من جانبه أو جانبهم!

أما الآن، فقد مات سعادة البيه، ليس هُناك ما يدعو إلى ضياع الوقت والمال لتقديم العزاء!
سعادة البيه سوف لا يري من الذي حضر أو لم يحضر للعزاء!

المُهم إننا قضينا أوقاتًا سعيدة وجميلة مع هذا البيه الدمث الخلق، سعدنا بصداقته، وقضينا أوقاتًا رائعة ممتعة في قصره الأسطوري الخرافي، أما الأكل والشرب في قصر البيه فهو لواحده حكاية، كان له مذاقًا خاصًا، من أيدي طهاة القصر الأجانب، وفي المناسبات الخاصة، مثل عيد ميلاد شاكر بك أوعيد ميلاد رجينا، كان يُرسل طائرته الخاصة لإستحضار طعام الحفل خصيصًا من فرنسا!

كانت أيام.. الله يرحمك يا شاكر بك.. فعلًا قطعت بينا حنفضل دايما نتحسر على أيامك الجميلة التي لم تعود!

وصدق المثل اللي قال:
كلب الباشا مات.. مشيت وراه باشوات كل البلد،
الباشا نفسه مات.. ممشيش وراه ولا كلب من البلد!

الجريدة الرسمية