رئيس التحرير
عصام كامل

الدين والحضارة ومكارم الأخلاق


الانفلات القيمي والأخلاقي، ليس مفسدة فحسب، وإنما ضياع وتدهور وانهيار على المستوى المجتمعى العام، وصدق "شوقى" حينما قال: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا".. وليس هناك أدل على ذلك مما جاء على لسان الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، حيث يؤكد أن الهدف الأسمى من بعثته هو قضية الأخلاق "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهي القضية التي دعا إليها جميع الأنبياء والرسل من قبل..


في تعريفه للحضارة، يقول المفكر الجزائري مالك بن نبى: "هي التقدم التقني والرقي الروحي والأخلاقي"، والمعنى أنه لا يمكن أن يحدث تقدم تقني إلا إذا تحلى أهله بهذا النوع من الرقي.. ويقول أيضا: "إن الحضارة تلد منتجاتها"، والمقصود بالمنتجات هو كل ما نشاهده من تقنيات؛ كالمركبات الفضائية، والصواريخ، والطائرات، والدبابات، والسيارات.. إلخ.. وقد يحوز مجتمع ما بعضًا من هذه المنتجات، إلا أنه لا يمثل بالضرورة مجتمعًا حضاريًا؛ لأنه لم ينتج هذه التقنيات وإنما حصل عليها أو ابتاعها من منتجيها.. 

والأخلاق هي معنى عام وشامل لكل ما هو نبيل وجليل في الحياة.. هي ليست فقط مقتصرة على الرجولة، والمروءة، والشهامة، والصدق، والوفاء، والإيثار، والتكافل، والتعاون، والكرم، والشجاعة.. إلخ، وإنما هي أيضًا متضمنة لمجموعة من الخصال العليا في كل مجال وميدان؛ كعلو الهمة، وقوة الإرادة، وصلابة العزيمة، والجد، والنشاط، والدأب، والمثابرة، والانضباط، وإتقان العمل، والإنجاز، والمنهجية العلمية في التفكير والتخطيط والإدارة والمتابعة، والاهتمام بمعالى الأمور.. إلخ.

ولست مبالغًا إذا قلت إن إقامة العدل، والدفاع عن المظلومين، ونجدة الملهوفين، والحفاظ على كرامة الإنسان، علاوة على الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية؛ كحفظ الدين والنفس والعقل النسل والمال، كل ذلك يمكن اعتباره من مكارم الأخلاق.. ومجتمعات هذا هو شأنها، لا بد أن تكون قوية وعفية، ولها مكانتها وموقعها المرموق بين المجتمعات قاطبة..

وعلى النقيض، يمكن اعتبار المجتمعات التي تفتقر إلى هذه القيم -أو بعضها- مجتمعات متخلفة ومتردية، بل ضعيفة وهشة وعاجزة، وبالتالي لا مكان ولا منزلة لها بين الأمم...

والناظر إلى المجتمع العربى القبلى قبل الإسلام يلاحظ كم كان متخلفًا ومترديًا، باستثناء بعض القيم كالنخوة والكرم والشجاعة.. وعندما بعث محمد (صلى الله عليه وسلم) برسالة الإسلام، أحدث تحولا ضخمًا وتغييرًا هائلا في النفوس والأخلاق والسلوك.. ولا شك أن الآثار الغائرة والأحداث العميقة التي خلفها من بعده لا تزال قائمة ولن تتبدد بإذن الله..

في كتابه القيم (تأملات في الدين والحياة)، وتحت عنوان "معالم النبوة"، يقول شيخنا الغزالى: "فالأمة التي صنعها بيديه، والرسالة التي أوحيت إليه، هي أشرف مواريث الإنسانية.. وسيموج العالم بعضه في بعض، وتصطرع مذاهب وآراء، وتتفانى شعوب وأجيال، ويبقى بعد ذلك دين محمد العظيم، يبقى الربوة العاصمة من الغرق في هذا الطوفان الفوار.. وسيبحث العالم كله عن الحق والسلام والعدالة.. ومهما أجهد نفسه فلن يجد إلى ذلك سبيلا، إلا إذا عرف الطريق إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فمشى على سنته، واستقام على هديه، واستظل بلوائه، وألقى إليه السلم!".
الجريدة الرسمية