صابرين
تحكي لنا اليوم راوية القصة من رصيد ذكرياتها فتقول:
عرفتها في طفولتي أحببتها وتأثرت بها كثيرا، إنها جارتنا " الست أم صابرين " كنا نعيش في بلدة صغيرة، حيث كان أبي يعمل هناك معلما، أمضيت بها طفولتي وكانت أسعد أيام حياتي، كانت بلدة رائعة الجمال مليئة بالمزارع والحدائق، يحد إحدى جوانبها نهر النيل، كان بيتنا في الناحية الأخرى يطل على ترعة كبيرة على جانبيها الأشجار التي تتدلى أغصانها بالماء في لوحة فنية بديعة صورها الله سبحانه وتعالى، خلفها تمتد المزارع الخضراء بدرجاته المتنوعة لا ترى سواها على مد البصر.
كانت أم صابرين سيدة بسيطة الحال، شديدة الطيبة عندما تراها تشعر بالراحة والسكينة دون أن تدرك السبب، ابنتها الكبرى صابرين كانت بالمرحلة الثانوية، أما ابنها على فكان بالمرحلة الإعدادية، كانت جارتنا الطيبة تخيط لنا الملابس كي تساعد زوجها على أعباء المعيشة، وكانت كلما تأتي لزيارتنا أجلس بجوارها لا أتركها لحظة، يربطني بها شىء ما، وعندما يحين موعد الصلاة تقوم للصلاة على الفور، كنت صغيرة جدًا لا أعرف كيف أصلي، كانت تعلمني وتأخذني أصلي معها، وفي السجود أسمعها تتمتم بما لا أفهم وبعد الصلاة سألتها يومًا ألم تقولي لي أننا نقول في السجود سبحان الله ثلاث مرات فحسب ؟ ماذ كنت تقولين ؟ ولماذا تطيلي السجود هكذا؟ كنت أسألها وكأني أعلم أن لديها الكثير، فما كان منها إلا أن تبسمت في وداعة شديدة.
تمر الأيام ونكبر جميعا. تعرضت عائلة جيرانا الطيبين لمحنة، أتت يوما لأمي تحكي لها مشكلة، وكانت تبكي وبكت أمي معها، لم أستوعب ما حدث ولما البكاء ؟ إلا أنني مازلت أذكر ذلك اليوم، عندما خرجت صابرين وقفت أمي وأنا معها في شرفة المنزل تنظر وتراقب صابرين، تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي كانت قد تعرضت لحادث أصاب عمودها الفقري مما جعل حركتها شديدة الصعوبة وهي تمشي في وهن واضح يلحظه كل من يراها ويدرك كم تتألم تلك الفتاة وكم تعاني، كانت تتجه ناحية الخروج من البلدة وأمي تتابعها وتبكي بحرقة وقلة حيلة وعندما غابت عن أنظارنا دخلت أمي لسريرها وظلت تبكي حتى نامت، كنا وقت الظهر تقريبا، والمفجع عندما استيقظت أمي أخذت تصرخ بانهيار كانت تحاول أن تتكلم ولكن دون جدوى، طلبنا الطبيب فقال إنها فقدت النطق وأنها في حالة انهيار عصبي، فقدت القدرة على الكلام من شدة حزنها على صابرين وظلت فاقدة للنطق مدة ثلاثة أيام.
مرت أيام قليلة وعلمت من أمي أن أم صابرين تركت البلدة وأخذت أبناءها معها للإسكندرية، فقد طلقها زوجها وتزوج من غيرها، تلك المرأة الصالحة الجميلة بكل المقاييس، سافرت في هدوء وغابت عنا لكن ترى كيف ستعيش وما مصير هذه العائلة ؟
مرت الأيام وسافر أبي لأوربا للدراسة كنت وقتها في الصف الخامس الابتدائي، وبعد عام سافرنا للإسكندرية كي نستقبله، ومكثنا بها أياما بحثت أمي خلالها عن عنوانهم بشغف ومعاناة شديدة، صابرين الآن طالبة بالحقوق وعلي بالثانوية العامة فرحنا جدا بلقائهم إلا أننا حزنا لحالهم فقد كانوا بحال يدمي القلوب، يبيع على الجيلاتي على البحر، وتخيط أم صابرين الملابس للناس، كانوا يعيشون في غرفة صغيرة متواضعة أسفل إحدى العمارات "بالبدروم" زرناهم بها، لا تجد تلك الأم الرائعة مكانا تضع فيه ماكينة الخياطة سوى تحت السرير ( كان أغرب منظر رأيته في حياتي) كانت قد وضعت تحت كل رجل من أرجله مجموعة من البلاطات كي ترفعه لتجد مكانا لتجلس تحته بماكينتها المتواضعة وبجانبها لمبة ممتدة بسلك طويل كي تنير المكان، ما هذا ؟ وكيف وصل بهم الحال لهذه الدرجة ؟ والعجيب أنك مع كل هذا لا ترى على وجوههم جميعا سوى ابتسامة الرضا والأمل، ولا تسمع منهم إلا كل جميل، سبحان الله.
بعد عودة أبي انتقلنا للقاهرة، كنا على صلة دائمة بهم، أخذ الحال يتحسن شيئا فشيئا تخرجت صابرين وعملت محامية وتخرج على، زارتنا صابرين ووالدتها مرة لعدة أيام، كنت أجلس بجوار الست صابرين كما كنت أفعل زمان، تعلمت في تلك الأيام منهما الكثير، كانت الدروس عملية ليست مجرد كلام، قدمنا يوما أنا وأختي هدية لها جلبابا يشبه البالطو فنظرت إليه وقالت "لى أنا ما أنا عندي أهه يا ولاد" قلنا هذه هدية، نظرت للجلباب وهي تحمله وقالت "لتسألن يومئذ عن النعيم " وعندما قضت معنا وقتا ذات ليلة أمام التلفاز قامت بعدها الليل كله تصلي وتقرأ القرآن، وعندما سألتها قالت: لأنها أضاعت وقتا طويلا دون ذكر الله، لم تكن تلزم أحدا بعبادتها ولا تتحدث عنها أصلا، إلا إن سألت، لم تنتقد أحدا يوما ولم تكفر أحدا، أم صابرين ما أروعك ! أحبك في الله حقًا.
تمر أعوام قليلة وكان وضع هذه العائلة قد استقر، كانا يبران أباهما بالرغم من تخليه عنهم كل هذه السنين يزوراه ويساعداه ماديا ويصلان إخوتهما الصغار من زوجته، ويبدو أن الدنيا أخذت تقبل عليهم، إلا أن الله أراد أن يرفع درجاتهم فكان الاختبار الأكبر ؟
أصبح على محاسبًا يعمل ليل نهار كي يعوض أمه وأخته سنوات الفقر والحرمان، ذلك الشاب الصالح البار كان دائمًا سندا لأمه وأخته يحمل عنهما عناء الحياة في رضا تام. دخلت عليه صابرين يوما وهي تحمل بعض الهدايا وقدمتها له بفرحة عارمة "غمض عينيك يا أستاذ" وعندما سألها إيه دا كله يا أستاذة ؟ قالت: دي بدل لزوم الشياكة يا أستاذ. يمتن على: ده كتير، دي أقل حاجة يا حبيبي، طول عمرك شايل همنا ربنا يخليك لينا يا رب، لم تمض سوى أيام، بدأ على يشكو من آلام مبرحة في بطنه زهد بسببها الطعام، وعندما أجرى الفحوصات اللازمة اكتشف الأطباء أنه مصاب بمرض السرطان يداهم جهازه الهضمي، في مرحلة متقدمة.
تستقبل أمه الخبر في حزن شديد " إنا لله وإنا إليه راجعون" يا حبيبي يا على يا حبيبي يابني ربنا يشفيك ويصبرك على ما بلاك.. ألطف بينا يارب، كانت صابرين تبدي الثبات أمام أمها وتحاول طمأنتها، أما في خلوتها لا تكف عن البكاء والدعاء ليل نهار، وعندما اشتد المرض وساءت الحالة نصحهم الأطباء بالتوجه لمستشفى السرطان بالقاهرة، لملمت صابرين حاجاتهم وشدوا رحالهم للقاهرة. أما هو فكان مستسلما لقضاء الله، كان صابرا حقًا محتسبا أجره عند الله، وكان لا يقول سوى "الله" كأنه استبدلها بدلا من ال آه، كانت الآلام تزيد يوما بعد يوم بدأ لا يقوى على احتمالها "يارب صبرني عايز أقابلك مسلم" كان هذا كل ما يشغله " كانت أمه تواسيه باكية وهي في أشد الحاجة لمن يواسيها " وبشر الصابرين يا حبيبي" كان يدرك أنها النهاية لذلك أوصى أمه وأخته بالصبر، وطلب من صابرين أن تتصدق ببدله التي لم يلبسها بعد، (ألبسك الله ثياب الجنة يا على).
صابرين في حالة انهيار عندما أبلغها الطبيب أن ترتب الأمور لأن الباقي مجرد ساعات، ما أصعب الفراق خاصة فراق الأحبة.
كلمتني وهي تبكي بصوت مرتفع، لم أتمالك نفسي عندما عرفت، وشعرت بالضعف وقلة الحيلة فأنا لا أستطيع الحركة أبدا بأمر الطبيب لأني معرضة للإجهاض، ذهب زوجي وأخي لحضور الغسل في الصباح الباكر، وعند وصولهما للمشفى كان هناك رجل طيب متطوع قد أوشك على إنهاء الغسل، وعندما دخلا سألهما من هذا الرجل الذي أغسله ؟ تعجبا من السؤال واستفهما منه لماذا تسأل ؟ قال الرجل: لم أر في حياتي مثل ما رأيت اليوم !ميتك هذا كان رافعا سبابته طوال الوقت في وضع التشهد سبحان الله !
عاش على كريما بارا بأمه رجلا صابرا لم يحمل همه أحد، ورحل في صمت لم يكن معه أحد بالمشفى سوى أمه وأخته فقط.
يحكي لي زوجي متعجبا مما رأى يومها يقول: عندما خرجنا للصلاة عليه بمسجد عمرو بن العاص كنا نحاول مواساة أمه وأخته طوال الطريق من المستشفى للمسجد ونبشرهما بما قال لنا الرجل الذي غسله من علامات القبول، يا حاجة هو من الشهداء إن شاء الله فهو مبطون، وعندما وصلنا لم يكن معنا أحد يحمل النعش سوى السائق، وإذا بآلاف الأيدي تمتد لتحمل معنا، من هؤلاء ؟ ومن أين أتوا؟ لا أحد يعرف !!
هذا بالرغم من أن هناك أكثر من جنازة تتجه للمسجد في نفس الوقت، فاليوم الجمعة وهو من الأيام المبشرة بالخير أيضًا، يقول زوجي: كان النعش مكشوفا فإذا بشال أخضر قطيفة يغطيه ولم نعرف من وضعه فالزحام كان شديدا. رحمة الله عليك يا على كنت نعم الابن ونعم الأخ ونعم الجار.
يستطيع أن يعلم كل من يقرأ تلك القصة كم الألم المحفور في قلب صابرين وأمها مهما كان إيمانهما وصبرهما، لكن رحمة الله بنا لا حدود لها، تبكي صابرين أخاها طوال اليوم بعد الدفن حتى نامت ثم تصحو فرحة مستبشرة ومبشرة أمها " ماما شفته في رؤية جميلة، احمدي الله يا أمي، تفرح الأم وتسألها في لهفة خير؟
تقص صابرين على أمها فتقول: جاءني في هيئة جميلة وكأنه عريس وكنت أبكي من حرقة الفراق، سألني بتعيطي ليه يا صابرين ؟ قلت له "عشان سبناك لوحدك يا حبيبي " قلي يا عبيطة انتي فاكرة إني في المكان إلى سبتوني فيه ده ؟ لا أنا رحت مكان جميل أوي طمني ماما علىّ وقوليلها متزعلش.
فرحت أمه ونزلت السكينة على قلبها، الحمد لله.
بعد وفاته مباشرة كان موسم الحج قد اقترب، وبعدها تقابل صابرين صديق على ومعه زوجته، سلما عليها وقالا لها سلمي لنا على على، رأيناه يطوف حول الكعبة ولم نستطع الوصول إليه من شدة الزحام، بكت صابرين وقالت على مات، ذهل الرجل وأقسم لها أنه رآه وكان مثل القمر. سبحان الله كم كنت تشتاق يا على لحج البيت وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
حقًا ما أعجب الحياة وكم هي مليئة بأمور غيبية يصعب علينا فهمها. رحمة الله عليك يا على.
تعيش تلك الجارة الرائعة الطيبة الآن مع صابرين وزوجها.
هذه أم صابرين الصابرة، اللهم كن في معيتها دائمًا واجزها خير الجزاء يارب العالمين.