رئيس التحرير
عصام كامل

كان نابها لكنه لم يكن عبقريا!


في ٢ سبتمبر ١٩٦٤ تم تكليفى معيدا بقسم الجيولوجيا جامعة أسيوط، واخترت أن تكون رسالتى للماجستير تحت إشراف أحد أساتذتى هو الدكتور سمير الجابى رحمه الله..ولما كان الرجل يقيم بالقاهرة، فكان يقضى بها ٤ أيام وبقية الأسبوع بأسيوط.. انتهزت الفرصة وطلبت منه أن أشغل حجرة مكتبه أثناء تواجده بالقاهرة، حيث إن غرفة المعيدين لا تتيح شيئا من الهدوء المطلوب، فأذن لى..

كان الرجل فوضويا..في مكتبه، وفى بيته، مما يدل على أنه سلوك طبعى فيه..لكنه لم يحاول أن يكون منظما، ولم يحاول أحد أن يجعله كذلك، أو ربما حاول لكنه فشل، فأصابه يأس من تكرار المحاولة وقرر التوقف..على سطح مكتبه رقدت أكوام من الكتب والدوريات العلمية والتقارير، مختلطة ببعضها..البعض من زملائنا في ذلك الزمان كان يفسرون هذا السلوك على أنه نوع من العبقرية، وزعموا أن أغلبية العباقرة فوضويون!!..

اعترف أن أستاذى هذا كان نابها، لكنه لم يكن عبقريا..في الغرفة المقابلة له، كانت غرفة مكتب أستاذنا الكبير محمد كمال العقاد رحمه الله، الذي أصبح فيما بعد رئيسا لجامعة طنطا..كان الرجل منظما إلى درجة غير مسبوقة، وكان هو الآخر نابها، لكنه أيضا لم يكن عبقريا.. أعتقد أن العبقرية لا علاقة لها بالفوضوية..

عندما استقر بى الحال في غرفة أستاذى، كان أول شيء فعلته هو فرز وتصنيف وترتيب هذه الأكوام المكدسة فوق سطح مكتبه..عندما عاد الرجل من سفره ودخل غرفة المكتب، صاح قائلا: كده "بهدلت" المكتب!! هكذا رأى أستاذى النظام، ولا عجب في ذلك، "فالدهولة" عنده كانت ثقافة وطريقة معيشة..

حكت لى زوجته الألمانية أنها عادت إلى البيت يوما فلاحظت أنه على غير العادة ليس به ما يوحى بعدم نظام..فقد اعتادت أن تعود فترى "فردة" شراب هنا وأخرى هناك، وأوراقا متناثرة على أرضية غرفة المكتب، وهكذا...جذبت إلى أسفل إحدى "ضلفات" الدولاب بغرفة المعيشة، فإذا بكل ما بداخلها يقع عليها..لقد كان صاحبنا يلقى بكل ما يريد التخلص منه في الدولاب الذي حوله إلى سلة مهملات..سوف تجد عزيزى القارئ كثيرا من الناس على هذه الشاكلة..لا يخضعون ولا يتقيدون بنظام..يريدون أن تمضى الحياة على هذا النحو..

اختيار رؤساء الوزارات والوزراء عندنا في مصر يتم بمنتهى الفوضوية..لا مقاييس ولا معايير ولا توصيف للمهام، وهل فلان تؤهله قدراته للقيام بهذه المهمة أم لا؟!..قد يكونوا نابهين، لكنهم بالقطع ليسوا عباقرة..ولو أنهم كانوا كذلك - أي عباقرة - لصارت حياتنا مختلفة تماما عما نحن عليه الآن..لا أكون متجاوزا إذا قلت إن "خيبتنا مش على حد"..

يعنى لا يسبقنا ولا يتفوق علينا أحد في الخيبة..يا سادة، التخطيط والإدارة والمتابعة تأبى أن تكون فوضوية..هذه علوم لها لأصول وقواعد..إدارة الدولة، خاصة إذا كانت بحجم ووزن مصر لا ينفع معها الفوضوية، بحيث لا يعرف لها أول من آخر..كما أن إدارة دولة فيها هذا الكم من المشكلات والأزمات، لا يمكن أن تتم بالأسلوب الفوضوى..قد يكون وزير الداخلية نابها، لكنه ليس بالقطع عبقريا..ما يحدث من اغتيالات لضباط وصف ضباط وجنود وزارة الداخلية دليل أكد على أننا أمام حالة من الفوضوية المدمرة، وليست الخلاقة..لكن يبدو - وعلم ذلك عند ربى - أن هناك من هو راض وسعيد بهذه الحالة..
الجريدة الرسمية