رئيس التحرير
عصام كامل

لأنه لا أحد يريد أن يتعلم!!


في صبيحة أحد الأيام، وصلت رسالة عاجلة إلى سائق القطار السريع المتجه من القاهرة إلى أسوان مفادها أن بضع مئات من أهالي قرية "المعاندة" قد تجمعوا عند خطوط السكة الحديد، بقصد تهديد رئيس الحكومة بأنه إن لم يستجب لطلباتهم، فلن تمر القطارات إلا على رقابهم..


تساءل أحد مساعدى السائق: وما هذه المطالب؟! قال المساعد الثانى: أيا كانت.. فهى لا تستحق التضحية بالحياة.. فما يفعلونه هو الانتحار بعينه.. رد المساعد الثالث: وهل هم جادون فعلا في تهديداتهم، أو أنها وسيلة ضغط وابتزاز؟ استطرد قائلا: ربما كان الأمر مجرد إيهام أنهم سيفعلون ذلك.. وفى ظنى أنهم سيلوذون بالفرار عندما يقترب القطار منهم.

قال السائق: لنفترض جدلا أننا لم نستطع إيقاف القطار لأى سبب كان، فماذا يفعل هؤلاء؟! أجاب المساعد الأول: يبدو أن لديهم ثقة بأن هناك من سيوقف القطار قبل الوصول اليهم، وقد سمعت أن شخصية كبيرة قد وعدتهم بذلك وما عليهم إلا أن يثبتوا في مواقفهم، ويقال إنها طمأنتهم بأن مطالبهم سوف تجاب كلها دون قيد أو شرط، وأن حياتهم سوف تكون بمأمن من أي خطر.. قال المساعد الثانى: أنا أعرف أن رئيس الحكومة رجل عنيد ولا يقبل أن يلوى أي أحد ذراعه، وأن الشخصية الكبيرة لن تستطيع تنفيذ ما وعدت به، خاصة أنه معروف عنها التنصل من أي وعد عند أول منعطف، لذا فأنا متخوف!

على بعد كيلومترات من القرية، تناول السائق "نظارة الميدان" ليستبين الطريق الممتد أمامه، وإذا به يرى مئات من البشر، رجالا ونساء، قد تراصوا، واضعين رقابهم على القضبان، لكن بدا أنهم مطمئنون أن القطار لن يقترب منهم، فضلا عن أن يصل إليهم.. حاول سائق القطار أن يتمهل في سيره، بل إنه سارع في إطلاق صفارات التحذير لعل المعتصمين يتحركون قبل فوات الأوان.. لكنهم كانوا في واد آخر.. لقد تبين لسائق القطار أن هناك أطفالا صغارا جلسوا بين القضبان وهم يحملون على أيديهم ما يشبه الأكفان..كما لاحظ أيضا أن ضمن الحاضرين من يبدو من هيئاتهم وملابسهم أنهم من المتسولين والشحاذين، وأنهم جلسوا يأكلون ويشربون..هي بالطبع فرصة كبيرة، فإلى جانب الطعام والشراب، هم ينعمون بمن يحتضنهم ويهتم بهم ويتقرب إليهم بدلًا من تلك المعاملة المتعالية والجافة التي يلقونها على أيدي أصحاب السيارات عند الباحات المخصصة لوقوف سياراتهم.

بالرغم من الثقة البادية على المعتصمين، فإنهم وضعوا في طريق القطار دشمًا وأدوات حديدية لإيقافه أو عرقلة حركته، أو حتى انقلابه قبل أن يصل إليهم..

كما بدا أنهم يخططون لإيقاف حركة القطارات كلها، الذاهبة والآيبة.. وأنهم سيمكثون أياما ريثما تتحقق المطالب، فقد أقاموا خيامًا كثيرة للمبيت والراحة، كما أحضروا مواشى وعجولًا، إضافة إلى "تنكات" كبيرة لمياه الشرب، أما قضاء الحاجات والاستحمام وما أشبه، فالترعة الموازية لقضبان السكة الحديد فيها "الخير والبركة"، وقد أصبحت بفضل هؤلاء "مصرفا صحيا" تزكم رائحته الأنوف، وواضح أيضا أنهم قاموا بالاتصال ببعض الوسائل الإعلامية، المحلية والإقليمية والدولية، إذ يوجد أعداد كبيرة منها..

والصحفيون يتحركون بنشاط وداب، فهاهم يقومون بتسجيل وتصوير كل صغيرة وكبيرة، وكل ركن وزاوية، ويدونون ملاحظاتهم التي لا تنتهى، وحوارات صحفية مع الكبير والصغير، والزعامات والأفراد العاديين، ويبعثون بكل ذلك إلى الفضائيات والصحف التي ينتمون إليها.. وجاء مراقبون من كل حدب وصوب؛ من أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا..إلخ..

ظل السائق يطلق صفارات الإنذار.. لكن لا مجيب، بل إنه رأى بعضهم يلوح بيديه استهانة به.. في الوقت ذاته، لم يدخر رئيس الحكومة وسعًا في أن يرسل إليهم من يحذرهم، وأن الأمر جد لا هزل فيه، وأن عليهم مغادرة المكان بأسرع ما يمكن قبل أن يصل القطار، لكن القوم وضعوا أصابعهم في آذانهم..

كان السائق حريصًا على أرواح هؤلاء، لكنه في الوقت ذاته خائف من أن ينقلب القطار، وما يمكن أن يسببه ذلك من وقوع ضحايا لركابه.. ومع اقتراب القطار، غادر المراقبون والزوار، وهربت الزعامات وألقى القبض على بعضهم، واختفى أصحاب الحناجر "الزاعقة".. ولم يبق إلا الغلابة والمساكين، المغرر بهم، كى يلقوا حتفهم تحت عجلات القطار.. ويظل الدرس واضحًا لمن يريد أن يفهم أو يعى.. لكن للأسف، يتكرر وقوع المأساة، بسبب أن أحدًا لا يريد أن يتعلم!!
الجريدة الرسمية